الأعمدة

الشارع لمين ؟

 

ما زلت أتذكر هذا اليوم..كنت في الصف الخامس الابتدائي عندما استلمت جائزة التفوق في بداية العام الدراسي من العام 1968 ، من ناظر مدرسة الطبري الابتدائية الكائنة بروكسي في حي مصر الجديدة ، في هذا اليوم ، وبعد جرس “المرواح” ،احتفلت وزملاء الفصل بالجائزة على طريقة الصبية في ذاك الزمان .. لعبنا مباراة كرة “شراب” خلف المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي ، وكأنت الشوارع تمثل لأجيال الابتدائي والاعدادي والثانوى متنفس لا مثيل له لإفراغ طاقة الصبية والشباب عند ممارسة اللعبة التي يعشقها الشعب ، وعلى الرغم من وفرة الأندية ومراكز الشباب التي يمكن أن نمارس فيها اللعب مع معشوقتنا الساحرة المستديرة ، إلا أن اللعب في الشارع كان له رمزا فريدا في حياة جيلي ومن سبقونا ومن لحقونا ، حيث كان يمثل الأمن والأمان للصغار والكبار.
طوبتين كبيرتين يرسمان حدود كل مرمى من الفريقين المتنافسين .الفريقان يتشكلان من مختلف الطبقات الاجتماعية ، أبناء أثرياء ، ووزراء (منهم ابن المرحوم شعراوي جمعة وزير الداخلية) ، وأبناء قادة وضباط يقاتلون على خط النار ، أبناء أطباء مشهورين ، وأبناء مهندسين يتفاخرون بأبائهم الذين يبنون السد العالي ، وأيضا ابناء فقراء وحارسى عقارات وغيرهم ، كان “الكاوتش” المصنوع في شركة “باتا” هو العنصر المشترك بيننا جميعا (يبدأ سعره من 12 قرشا للزوج إلى 25 قرشا )وبدأت المباراة ، وإذا بالكرة طاشت بعيدا عن المرمى وترتطم بثلاجة مياة غازية موضوعة على رصيف الشارع لمحل بقالة .
اندفع صاحب المحل ونهرنا وطلب منا بخشونة بالغة عدم اللعب في الشارع ، لكن محمد عبد المولى ، زميلي في الفصل ، إبن حارس العقار المجاور للبقالة والحاصل على الترتيب الثاني في امتحانات أخر العام للصف الرابع الابتدائي ، اندفع بصوته مع زميل أخر يعمل والده طبيبا جراحا في مستشفى غمره العسكري ” ده شارع الحكومة ونلعب فيه زي ماحنا عايزين”.
كان هذا المنطق السائد وقتها بين الشباب ، وبعيدا عن صحة أو خطأ هذا المنطق ، إلا أنه يشير إلى أن أبناء الطبقة الوسطى في هذا الزمان كان يتملكهم يقين أن الشارع المصري ملكية عامة ، لا يجرؤ أحد على الاستئثار به وحده سواء كان صاحب تجارة أو حرفة أو بقالة ، وأن الشارع للجميع ، وهو ما عبر عنه فيما بعد (1976) الراحل المبدع صلاح شاهين ، خلال الأوبريت الغنائي الفريد من نوعه الذي شارك في تلحينه الموسيقاران بليغ حمدي وسيد مكاوي في فيلم الأبن الضال للمخرج الراحل يوسف شاهين : “الشارع لمين .. الشارع لنا”.
مرت الأعوام ، ولم يعد الشارع لنا ، وأصبح ملكية خاصة لأصحال المحال والبوتيكات والورش ، كل منهم امتلك الشارع والرصيف بوضع اليد ، والحكومة تشاهد عشوائية الفوضى قي استخدام ما يعتبره القانون ملكية عامة ، مقابل غرامة ـ إتاوة ـ ضريبة ، إكرامية ، سمها كما شئت ، فالنتيجة واحدة :
الشارع مش لنا، الشارع ملكا لأصحاب النفوذ والمال والجاه يتصدرهم المرتشون من الإدارة المحلية التي باعت الشارع لمن يدفع بموجب الإعراف الجديدة التي دشنها ما عرف بالانفتاح الاقتصادي طوال نصف قرن مضى .وأنتج لنا المضاربون والسماسرة والمحظوظين من أقرباء المسئولين الذي خصصوا مئات الألاف من الأراضي لهم لإنقاذهم من الأحكام بالسجن والمصادرة التي صدرت بحقهم بسبب قروض حصلوا عليه من البنوك وعجزوا عن سدادها.
الشارع لمين ؟ الشارع لهؤلاء الذين سرقوا الجمال والهدوء والأمان ، واشتروا بأموالهم الضمير والأخلاق والقانون.
المؤكد أن يوما ما سيأتي ، ويشدوا المصريون الجزء الباقي من أغنية صلاح شاهين في فيلم “الإبن الضال”:
“أنا مش تبع مخلوق ياسيدنا البيه .. أنا حر في اللي يقول ضميري عليه ..وإن كنت تحكم جوا ملكوتك ،الشارع الواسع فاتح لي ايديه .. الشارع لمين ؟الشارع لنا والناس التانيين دول مش مننا”
أحمد عادل هاشم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى