الأعمدة

رحيل هرم شعري ناطق، ومفعم بالتجاوز : وجدي كامل

لم يكونا شاعرين كبيرين فقط، بل صديقين عزيزين جمعت بينهما صداقة ستينية، قديمة، عميقة اقام فيها ود المكي قسطا من الزمن، وسكن احيانا بدار ال عوض الجزولي. ما بين كمال، ومحمد، كانت اكثر من توأمة، ورباط من صداقة متينة، وذكريات مشتركة، ومحبة مشتركة جمعتهما وامالا عراضا لمستقبل يستحقه هذا الشعب الابي. كانت، وحين يغيب محمد المكي في مهاجره المتعددة حسب الوظيفة الديبلوماسية والهجرة الاخيرة لبلاد العم سام تشتعل المراسلات، والاتصالات الهاتفية، وينتظر صديقه كمال قدومه على احر من الجمر . ما ان يحط الرحال، حتى يقوم كمال بتعطيره على المجالس، والجلسات، وينتقلان بعسل المؤانسة من مكان الى مكان،وتتألق الخرطوم، وبيوت المثقفين والفنانين. سعدت بان كنت شاهدا على ذلك، وواحدا من اولئك ممن تشرفت بيوتهم بزيارتهما معا، بعد مشاهدة فيلمية مشتركة لفيلمي (جراح الحرية). كانت تلك واحدة من مرات عديدة، استطعت التعرف فيها على الرجل السهل الممتنع، اللطيف، المبتسم، الهادئ، الدمث الخلق، والمعجون بالتواضع الجم، وحب الاخرين. حزن محمد المكي ايما حزن على وفاة صديق عمره كمال الجزولي، وكانت زيارته للتعزية بالقاهرة بمجرد وصوله لها. ولكن وحسبما كان قد اسر لي الدكتور ابى كمال الجزولي قبل ايام وكان العلم قد نما الى ان شاعرنا قد توفي سريريا منذ دخوله مستشفى الفؤاد، بان ود المكي كان وفي حزنه العميق على غياب صديقه بدا مشغولا في تلك الزيارة بالتعرف من ابى على تفاصيل تحضير جثمان الميت، ودفنه، والاجراءات المتبعة بالقاهرة لتلك الطقوس، وكانه قد اختار الموت، وكانه قد عاد ليموت في مكان اقرب لموطنه الذي احب وعشق. عاد ليموت ويشيعه من عرف افضاله الثقافية والانسانية علينا بعد ان امتنع الوطن الممزق، المحترق هذه المرة عن الاستقبال، و حيث لم تكن هناك (امته) التي تشتت في بقاع الارض ونزحت ولكن يحمد الى ان احتفظت بكثافة من وجود بقاهرة المعز. كم كنت اتمنى ان اكون احد المودعين لولا العوائق. ها ذا اني اشاهد الوجوه وقد تبللت بالدموع، واسمع العويل، وبكاء من عرفوك. ها ذا اني ارى وداعا جليلا، ضخما يليق بمقامك وقامتك يا محمد المكي، يا من اسعدتنا بحياتك، ومساهماتك الشعرية المتميزة، المتفردة. اقول باسمك وباسم صديقك وكل من رحل عنا في هذه الظروف القاهرة، العصيبة سوف تتوقف الحرب، سينتصر الشعب، وسينكسر حائط السجن الرمزي الكبير الذي شيدته مؤسسات القهر والقمع التاريخية والمستحدثة، وستشتعل الحقول قمحا ووعدا وتمنى ومدنية. ستبقى ذكراك خالدة فينا، وفي الاجيال القادمة، ولن تنقطع سقياك لقلوبنا ولذاكرتنا ابدا. الوداع الوداع، ولا اجد في هذه اللحظات الحزينة ابلغ من مرثيتك لشيخك، وشيخ شعرائنا المحدثين محمد المهدي المجذوب في وداعك المهيب له شعرا عند الرحيل: من جمالك في الموت
يتخذ الورد زينته
والمواسم حناءها
والعصافير تترك توقيعها في رمالك
برحيلك
ﺃﻇﻠﻤﺖ ﺑﻮﺍﺑﺔ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻭﺃﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﻔﺮﺍﺩﻳﺲ ﺃﺿﺄﻥ
ﺑﺮﺣﻴﻠﻚ ﻳﻨﻔﺼﻞ ﺍﻟﺠﻤﺮ ﻋﻦ ﺻﻨﺪﻝ ﺍﻟﺸﻌﺮ
ﻳﻘﺘﺮﺏ ﺍﻟﻤﻮﺕ
ﻳﺴﻤﻊ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﻜﻬﻮﻟﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻊ
ﺗﻔﺘﻘﺪ ﺍﻷﺑﺠﺪﻳﺔ ﺃﻇﻔﺎﺭﻫﺎ
ﺗﺴﺘﺮﺩ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺩﻳﻌﺘﻬﺎ ( ﻟﺆﻟﺆ ﺍﻟﺸﻌﺮ ) ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ
ﻛﺎﻓﺮ ﺑﺎﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺃﺷﻌﺎﺭﻫﺎ
ﺗﺴﺘﻌﻴﺪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻃﻔﻮﻟﺘﻬﺎ
ﻭﺗﻌﻮﺩ إﻟﻴﻚ ﻃﻔﻮﻟﺘﻚ ﺍﻟﺬﺍﻫﺒﺔ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى