قراءة جمالية في رواية رسام الملكة) للقاص والروائي صديق الحلو ما بين زينب بلال وعبدالباقي جبل الحديد تنهض الإستعارة المكنية
الناقد : محمد حسن رابح المجمر – السودان
( أن تنزلق في مستنقعات زينب بلال اللا واقعية ، ذلك شيء لا يدانيه سوى الغبار العالق في كل شيء ، ترجع بك الذاكرة إلى الوراء تعرف كثافة الأيام ، وبصيرة نافذة أقرب إلى الأسطورة تركب الموجات ولا تتركها ، رواية رسام الملكة ص 6) .
إن التصور الأولي الذي نضعه في أذهاننا لما ستكون عليه أحداث وطبيعة الرواية المُعينة لا يكون مُتطابقاً مع حقيقة النص على الورق أو في الواقع ونحن نقرأ الرواية ، أوردت هذه الفرضية هنا في مقدمة مقالتي النقدية حول رواية ( رسام الملكة ) للقاص والروائي صديق الحلو ، لأقول : أن رسام الملكة الذي يتبادر للذهن فور سماعنا لهذا العنوان ليس هو ذلك الشخص الذي كانت وظيفته في القرون السحيقة من التأريخ أن يرسم ” كما الكاميرا الأن ” ما تطلبه منه الملكة ، إنها إستعارة مكنية تم توظيفها للتعبير عن ” معرفة تأريخية بالسلطة تعود إلى عصر الكنداكات ” في الممالك السودانية القديمة وهذا ما سنعرض له لاحقاً .
تلتقيك السيدة زينب بلال كأول شخصية في رواية ( رسام الملكة ) يتم تقديمها مع وصف دقيق لخصائصها الإجتماعية والنفسية مع الغوص عميقا في التفاصيل غير المرئية لحياتها الخاصة والعامة ، ويأتي بعدها في الترتيب من حيث الظهور والتواتر على مستوى أحداث الرواية أولادها الثلاثة عشر ولكل واحدة منهن/ منهم حكايته الخاصة التي تصب في خضم سيرة كبيرة واسعة بطلتها والدتهم زينب بلال ، وهذه السيدة التي تسيطر على كل شيء في (اللقدين ) وهو إسم لبلدة أو مدينة يحيل على معلومة أنها تقع في نطاق مناخ السافنا الغنية غزيرة الأمطار واللقد هو ترس ترابي كبير يستغله المزارع كسد لحفظ المياه لأطول فترة ممكنة داخل الزرع .
ولعلاقة ما بين زينب بلال والسلطة بمدلوليها الزماني والمكاني – وهذا ما كشفته مقدمة الرواية نفسها – إذ إعتمد الكاتب صديق الحلو في تأسيس نصه الروائي على (التأريخ الشفاهي ، اليومي ) لحياة هذه السيدة ، ولما كانت شخصيتها عادية ولا تحمل أي (إشارة ، علامة) على إمكانية أن تتحول أو تنتقال داخل المنطق السردي أو الحياتي الواقعي في حيزها الزماني والمكاني لتعبر عن بعد إنساني ما ، فبات واضحاً أنها صُممت كرمز للسلطة إنطلاقاً من شرطها الإجتماعي ( الُمختلف حوله ) ، فهي إمرأة من هامش البلدة / المدينة تتميز نوعياً بجرأتها وبواعثها الجنسية الشهوانية الطاغية تجاه الرجل ، وللجنس بالمفردات الدالة عليه كفعل ورمز نفسي وإجتماعي له أدواته اللغوية في رواية ( رسام الملكة ) وجوده الكثيف من جهة والذي لايمكن تجاهله بإعتبار أن هذه المفردات قد دخلت في التعريف بالزمن وإختلاف الحقب من حيث الوصف من جهة أخرى في هذا مثال :
( الطمث ، الدورة الشهرية عند النساء ، تكون في أجزاء من النص ذات مدلول سردي مختلف وجريء : في عهد الرئيس عبدالباقي جبل الحديد كانت دورتهن الشهرية تأتي بإنتظام ، إلا أنها في عهد الرئيس عبدالله القرين قد جفت تماماً ) .
تمضي الرواية في إتجاه مُتصاعد ( كرونولوجياً ) وهي توثق لسلطة زمانية ( قابضة ) في شمولية لافكاك منها ، وما يجمع بين هذه السلطة والسيدة زينب بلال – في رمزيتها العليا – أنهما يستخدمان الإعلام ( اللغة ، العنف المادي واللفظي ) من أجل قمع الذين يقعوا تحت سلطتهم ، وفي وضع التقابل بين هاتين الصورتين نقرأ :
( ونحن في هذه المنعطفات والإضمارات ، نترنح في الإنطلاقات والسقطات ، بدأ الناس في تخزين الأغذية خوفاً من ندرتها ، كم من الجرائم إرتكبت بإسم الإسلام.. المسألة صعبة وإزداد عدد الضحايا . عبدالباقي جبل الحديد في إندفاعاته العجيبة ببذر الخوف والرهبة في نفوس الجماهير ، علينا مواجهة قدرنا ، نفاذ البصيرة إفتقده الناس ، رواية رسام الملكة ، ص 27 ) .
ولمفهوم القوة في رواية ( رسام الملكة ) تحولاته غير المتوقعة بل والصّادمة في أحايين كثيرة ، فقد كرس الكاتب – على طريقة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا في شرح فعل الإنتهاك الذي تقوم به السلطة تجاه الأخرين – فالسيدة زينب بلال تظهر مُتعدية ومُسيطرة على مستوى العام والخاص في حياتها وحياة الناس الذين يعيشون من حولها ، تبحث عما يشبع فيها شهوة لا حدود لها للرجل وهي العلة التي أورثتها لبناتها خاصة فاطمة القصب الأحمر بما في ذلك حيلتها الواسعة في الحصول على الثروة والبذخ في صرفها ، وقد نجح الكاتب في ربط هذه الخصائص النفسية الدقيقة التي تكمن داخل شخصيتها مع طبيعة تسلسل الأحداث في البلدة فهي تعرف متى تقوم بزراعة الأرض التي ورثتها عن زوجها ومتى تذهب بالمحصولات إلى السوق ومتي تمتنع عن القيام بأي فعل !! ، ولهذا الربط السردي الموفق ما بين الأحداث والحالة النفسية لهذه الشخصية وهي مُنعكسة على البناء الإجتماعي في منطقة اللقدين دوره الكبير في تفكيك شفرات ومغاليق نص هذه الرواية ، ويمكن أن نسجل هنا : أنها رواية إعتمدت في بنائها على الإستعارة المكنية .
إمتدت سلطة هذه السيدة زينب بلال حتى حدود أن تتحكم في طريقة تربية أحفادها وهي الخطوة التي وصفتها الرواية بالخطيرة .. لماذا ؟..كان لها ما يزيد عن (26 حفيداً ) يسكنوا جميعا في بيتها الذي توزعت غرفه وحيشانه بين بناتها مع أزواجهن وتلك مفارقة قائمة بذاتها وربما تفيد كثيرا في تأكيد مدى تسلط ودكتاتورية هذه السيدة التي صادرت حق الإختيار من بناتها وأولادها لصالح إستمرار نموذجها الأوحد ، ولأن هذا النص هو في الأصل كان قد تم بنائه على عدد هائل من العلامات فإن الكناية الكبرى كانت :
– إن الفكر الشمولي والإستحواذي على السلطة لم يأتي إلينا سوى من تربيتنا الأولى التي لم يكن هنالك فيها مكان لممارسة فضيلة الشورى أو الإقتراع الفردي أبدا فأنت مكلف بإطاعة أوامر( الأم / السائد / المأثور الثقافي / السلوكي ) منذ أول يوم في حياتك حتى ساعة دفن جثتك تحت التراب .
– فقداننا لبوصلة التغيير ومعايير التقدم – إجتماعيا ، إقتصادياً – كأفراد وجماعات ناتج عن أن السلطة الزمانية في أي حقبة من تأريخنا هي من تقوم بهذه المهمة نيابة عنا ، فهناك بإستمرار من تكون مهمته الأساسية ( إعادة إنتاج الواقع ) بما يتناسب مع رؤية الحاكم/السلطة والتي يكون على المحكومين تصديقها .
يمثل سقوط نظام حكم الرئيس عبدالباقي في منطقة اللقدين تهاية حقبة طويلة من مغامرات الدكتاتوريين وصناع الأكاذيب ليحل في موقعه شخص أخر هو عبدالله القرين الذي لم يكن نظامه هو الأخر بأفضل منه إن لم يكن إمتدادا طوراني مشوهاً له ، ولعبت رمزية ( دم الطمث الذي جف بين أفخاذ النساء ) في عهده دوراً كبيرا في الكشف عن أسباب فشله في إحداث التغيير .
رواية ( رسام الملك ) بهذا العنوان المأخوذ من قصة ( الكنداكة والإسكندر الأكبر الذي إحتل مصر وسعى لضم أراضي التعدين في شمال السودان ) تمارس نقداً فلسفيا ” تهكمياً ” من خلال الظهور المتناوب ما بين المرأة السلطة وسلطة المرأة في وعي إجتماعي متكلس عند حدود الإشباع الجنسي والمادي كغاية عليا في مقابل جرأة الأخر وتقدمه حضارياً ، لتكون مقاربة الفساد المحمي بالقوانين والتواطؤ ما بين بطانة الحاكم والمستفيدين من أفراد المجتمع هو المنصة التي ينطلق منها الخطاب السلطوي الذي يمجد الفرد ويكرس لسلطته المطلقة والتي تستمر إستناداً على قمع وضرب مواطنيه بالحديد والنار .
زينب بنت بلال برمزيتها السلطوية الواسعة أدت دوراً ( إجتماعيا ، ثقافيا ، تربويا ) كبيراً في التأريخ الإجتماعي الإفتراضي لبلدة / مدينة اللقدين ، وإن إحتفي الروائي صديق الحلو بهذا التأريخ في واحدٍ من وجوهه المتعددة إلا أنه صّب جام غضبه على ( بدايات عبثية أتت مألاتها في النهاية وقد تورطت في الإنتشار على خريطة المهزلة ) ، جاءت نهاية هذه الرواية على نحو مهني كرس لسيادة ( المنطق السردي ) وقصقصقة أجنحة الخيال البريء حيث لا تغيير – على مختلف الأصعدة – يمكن أن يتحقق كهدف غالٍ ومصيري في هذا البلد قبل أن نغير طريقتنا في النظر للإنسان ولعلاقته بأرضه وثقافته الأم ومجمل مفاهيم وقيم التربية والتنشئة السياسية والثقافية .