قياس النزاهة والفساد بين عهدين !
الانظمة الإنقلابية دائما ولانها تبرر استيلائها على الحكم بما تراه فشلا للديمقراطية و فواح رائحة الفساد من جسد حكوماتها وصراعات الاحزاب المحمومة وتكالبها على حصص السلطة واكتناز الثروات وتحقيق المنافع الشخصية للمحسوبين عليها مما يخلق تململا وقلقا وسط الرائ العام الذي يصاب بخيبة الامل في التجارب السياسية الديمقراطية وينتج عن ذلك إن يسيل لعاب العسكر وبتحالف بعض المدنيين من ذات الاحزاب على دفعهم للإنقلابات .
طبعا وكما يقول المثل فإن لكل غربال جديد شدة ..فما ان يصدر البيان الاول بعد الموسيقى العسكرية إياها حتى تمتلئ الشوارع بمواكب التاييد الانفعالي ويتم تحشيد التجمعات هنا وهناك الى آخر تلك المشاهد التي عشناها مرارا مع الانقلابات التي حكمت البلاد لثلاث دورات باستثناء انقلاب البرهان الاخير الذي انفض سامر معازيمه الموزاب قبل ان يجف حبر بيانه الباهت .
ولكن من طبيعة حكم العسكر ان شدة غربالها في محاربة الفساد على وجه الخصوص لا تدوم طويلا حتى ترتخي بصورة مخجلة ومكشوفة .رغم ان معايير وازمنة الفساد تتفاوت بين تلك الانظمة في التبكير والتآخير والحجم ولكنه في نهاية المطاف فهو الفساد المبغوض في كل زمان ومكان . غير ان ذلك لا ينفي وجود بعض الصور المشرقة في ثنايا تلك الانظمة رغم ندرتها حتى لا نظلم الجميع بالتعميم المخل !
اذكر في السنوات الخمس الاولى لنظام نميري وكنت وقتها اعمل سكرتيرا لرجل اعمال محترم لا علاقة له بالسياسة وكانت صلاته ببعض المسئولين الحكوميين وعلى اعلى المستويات لا تخرج عن إطار العلاقات الاجتماعية والإنسانية والعائلية .
في يوم من الايام دخل إلى مكتبي احد كبار وزراء نميري نهارا يطلب مقابلة صديقه رجل الاعمال ..وحينما ابلغته خرج لاستقبال الوزير ليطلب منه الدخول الى مكتبه ولكن الوزير اعتذر له و بادر صديقه رجل الاعمال بان يلحقه بمائة جنيه لان زوجته اتصلت واخبرته إن مجموعة من الضيوف قادمة من البلد للمنزل الذي يفتقر في هذه اللحظة للفئران.
فهم رجل الاعمال الوقور قصد الوزير وضحك للتلميح الطريف ومن ثم دس في يد الوزير كتلة نقدية مقدرة وودعه حتى باب الشركة بكل التقدير وما إن غادر الوزير حتى قال لي رجل الاعمال منشرحا .. والله يا ابني السودان بخير طالما فيه وزراء من صنف هذا الرجل ..واذا استمر الحال هكذا فسينصلح حالنا باذن الله .
لم تمض سنوات قليلة وبعد فشل المصالحة الوطنية بين نميري والمعارضة الحزبية حتى قفز الإسلاميون بانتهازية الضباع التي تتعقب دائما بقايا الجيف ..وعاثوا فسادا في البلاد بعد ان استغفلوا النميري بشريعة قوانين سبتمبر التي عجلت بسقوطه لا لرفض عدالتها المنقوصة فحسب وانما ايضا بتشوهات تطبيقها المريبة .
حتى وصلوا بالبلاد إلى انقلابهم المشئوم بعد ان افسدوا وخربوا ديمقراطية ما بعد انتفاضة ابريل 1985.
و من هنا و الشي بالشي يذكر فبالمقابل اذكر ان احد الذين عينتهم الانقاذ وزيرا وهو من خارج منظومة الإسلاميين ..قال إنه ذهب لاحد كبار وزراء النظام من الكيزان ليطلب سلفة حكومية على راتبه لإكمال بناء منزله لان راتب الوزير وقتها كما قال لا يكفى حتى لضيافة زواره الذين ياتون من الاقاليم . فضحك الوزير الكوز وقال له ساخرا ..نحن في الانقاذ لانعرف السلفيات يا عزيزي . فعليك ان تبحث لك عن ( هبرة كبيرة تهبرها )
وتدبر امورك !
يقول لي الرجل والله على ما اقول شهيد انه خرج وهو يصفق كلتا يديه سائلا الله ان يعينه وجماعته على شراكة هؤلاء الكيزان التي فرضتها مقتضيات سياسية في مرحلة ما بعد اتفاقية ملزمة للطرفين .
وبغض النظر عن المقارنة بين الحادثتين أعلاه .. نقول ان نميري رغم دمويته و تقلبات مزاجه من اجل ديمومة نظامه بكل الوسائل القذرة التي تبرر تلك الغاية لكن الرجل خرج نظيف اليد على المستوى الشخصى وانسحب ذلك على الكثيرين من رجال نظامه الذي ذهب بما له وعليه ..وكان دون شك خلاف البشير الذي ضبطت تحت وسادته في نهاية مطاف حكمه الملايين من العملات المختلفة وهو الذي أعدم شبابا في بداية حكمه بذات الجرم حينما ادعى نظامه النزاهة وقتئذ.. ولكنه ولغ لاحقا و اهله ومنسوبو حكمه في المال الحرام و تلوثوا بعفن الفساد الذي اصبح ثقافة تربى عليها مويدوه المقربون الى درجة ان يتفاخر به كأمر عادي احد كتابه المدافعون عنه قائلا انه بنى منزله من عرق جبينه نظير عمولة اخذها لتسهيل مهمة احد الاجانب للحصول على صفقة بترول مشبوهة أو شيئا من ذلك القبيل .
وهو الآن يسن قلمه ناقما على ما أسماه بعمالة حمدوك والذي لا ندافع عنه كبشر يخطئ ويصيب لانه كما قال هذا الكوز قد اتى بالبعثة الاممية المدنية الحالية !
ولكن ذات الكاتب الشريف لم ينبس ببنت شفة عندما دخل عنوة إلى البلاد الآلاف من الجنود الاجانب وصاروا سلطة قائمة بذاتها موزاية لنظامه الافل بل كانت متفوقة عليه في دارفور التي اشعل حربها صراع الإسلاميين وطوروها إلى أبادة جماعية بعد أن كانت محض نزاعات أهلية و تفلتات نهب مسلح .
ولا زال الوطن يدفع فداحة ثمن حماقاتهم تلك المتمثلة في انقلاب البرهان وسطوة حميدتي بالسلاح والمال و انفلات مليشيات الكفاح المسلح ضد الشعب والتعدي على هيبة الدولة واقتحام مرافقها الأمنية في رابعة نهار الخرطوم !