أريج الثورة
سقط شفيع شهيدا بطلق ناري من أمام القيادة العامة ..
كان يسير ما بين جمهورية النفق وضاحية كولومبيا. ينظم الصفوف ويبني التروس. بكته الأسافير والفتيات الجميلات واصدقاؤه هيثم وشهير وعلي. كان الشفيع يقول لي انهن يعقدن الأمور. وكان غير راضٍ عن أريج رغم انه يقول ذاكرتي تمتليء بها كما تمتليء الشمس بضوئها. جاءت كالمطر، التقي بها كالريح وصار الكون أكثر سحراً ولطفاً وجمالا. قال له هيثم : ماذا احببت فيها ؟
رد شفيع لكم احببت الشرود الذي ينطبع حول عينيها، وذاك الحوَر. قال شهير وهم جلوس في ساحة القيادة يرتشفون الشاي بالنعناع : متي تتحرر أحلامنا من وقف التنفيذ إلى احداث حية وفاعلة. قال علي : نريد من يشاركنا في أحلامنا. وكان الشفيع يعتقد أن الشتاء والبنات فيهم قسوة لا حد لها. لماذا القصص دائما تحكي عن الماضي قال هيثم؟
وكانت اريج تستدير حول نفسها كبرتقالة وبرحيق اشواقها تفيض. قال الشفيع لقد علمتني ان أحب الحب ذاته ولذاته .. وكانت عيناه تومضان باشواق آمال لن تتحقق ابدا. كان ليل الخرطوم حينها غامقا مثل شجرة مورقة بالأرق . والشباب يمثلون حركات الحب والاشواق والخجل. عندك حط ما عندك شيل. كيف يكون الحب…
تفرقوا مثل شعاع الشمس وبقيت مثل الليل وحدي. يا انت يا اناي. انا المحب والمحبوب..كتب علي،علي جدران جمهورية النفق ورسم رسمة. قال الشفيع هل يمكن أن نحب الوطن واريج في وقت واحد. واريج كانت تمارس مناورات الوصال والصد
هي صبية ناضجة إلا أن وعيها كان فارغا
سمعنا باستشهاد شفيع كأن على رؤوسنا الطير. كان يهرب من أمام حصار الأسئلة التي تقذفها الحياة في وجهه. قال علي ان الحب ورطة . كأنه شيد من ضجيج الحياة الفوار. أحبوا ساحة القيادة كحب الشراع للمركب والريح. كانوا يخبئون الثورة في عيونهم حينما ينامون. العالم ليس منصفا. كانت الثورة في غيوم نوم الذاكرة وفي صحو نهارات الصيف
العالم لايكون جميلا دون شفيع. عندما تتحقق الذات عبر الانتصار عندها تكون ملامح الايام جميلة
تتجهم مدعية مظهر سن النضوج. وهانحن نعرف انفسنا علي مرآة اشواقنا وذكريات ماضينا. كانت الذكري تثير قلب شفيع اشتات من الماضي عاشها أضحت هالات من السعد
في قلب الاحداث تتسع العيون بالدهشة، وفي النوم تمتليء بالأحلام. وانتصرنا في ابريل اشرابت الاعناق ودقت القلوب العامرة بالوجد الكشفي واستجلاء الرؤيا. اريج كانت غيمة حبلى بالندي وبشفيع . متلفحة بذكريات مدفونة في ضوء النهارات المنطفئة والليالي المتوشحات بالسواد. انتهت ايام كانت لاهيه تدور كالنحل بين كل الورود .
[٢٠/٤ ١١:١٤ ص] صديق الحلو: 26 يناير 1885 الخرطوم تحررت .. وسقط غردون: قصة قصيرة. .. بقلم: صديق الحلو
(1) تحتشد امامي كل تلك الانتصارات الخالدة في ابا وقدير وشيكان والابيض . . غردون يرتعد من المفاجاءة.. . سرايا غردون تبدو كالرهاب.. هناك في الافق الشمالي . ونحن نسابق الزمن قبل وصول حملة الانقاذ..كنا بالالاف.. .الانباء تتواتر عن حملتين لانقاذه عبر النيل والصحراء. عندما تتأمل الصورة تجد فيها كثير من الخوف الامل والرجاء. دخان وغبار ومعارك ضارية و إيمان لا يتزعزع.. كان هدفنا احياء الكتاب والسنة المقبورين حتي يستقيما وتطهير البلاد من مفاسد الحكام الأجانب . الليل يرمي بظلاله في الكون كله ونحن كمعدية في النهر نتارجح بين الشك واليقين..بين الحب والوفاء..كان معنا العبيد ودبدر ومحمد ود مضوي . ومحمد البصير.والفكي محمد ودام حقين اتي من الجزيرة اسلانج . واحمد ابوضفيرة شيخ الجموعية . وعبدالقادر ودام مريوم…وتم حصار الخرطوم في عشرة اشهر.ثم حررناها.. .بعد ان مات خلق كثير.
فاطمة هناك بعينيها العاشقتين في حي الحكمدارية تنتظر قدومي مع الجيش المهدوي الفاتح. كنت وعدتها بالزواج قبل الهجرة. فاطمة الرقيقة كنسمة عابره تهيج مكامن الوجد فيا..تلتمع عيناها وهي تحلم بالعيش معي في دار واحدة ، وعندما اخبرتها بذهابي للجهاد صمتت واجهشت بالبكاء… انفطر قلبي واصبت باللوعة.
الامير ابوقرجة مهيبٌ كشهاب يمتشق سيفه البتار ويمتطي حصانه الاشهب.. يسانده محمد الطيب البصير في محاصرة الخرطوم..ومدد من قوات النجومي .. عسكر المهدي في ابوسعد بامدرمان.
النهارات اضحت مشحونة بالخوف والترقب .ظهرت اثار الحصار علي الخرطوم اضطرب الناس وهلعت قلوبهم…هوجمت حملة الانقاذ بواسطة الامير موسي ودحلو في ابو طليح والمتمه….تُرك غردون وحده يجابه الموت الزؤام. جاعت المدينة وانهارت معنوياتها..غردون بكبرياؤه وكامل زيه العسكري يطلع في سطوح القصر بالمنظار يصبو ناحية الشمال املا في ان يري وابورات حملة الانقاذ الانجليزية .. تأكله الحسرة ويملاه الحزن. .اهتزت الثقة وراحت النضارة..
العبرة تملاء شوارع الخرطوم.. النهارات تنفض غبارها والمصير الحتمي بسقوط الخرطوم تراه في الاعين التي تفيض بالحيرة..ارتعشت شفاه الناس من الجوع. اندلق ماء وجوههم.سلم فرج الله باشا الزين حامية ام درمان للمهدي.مما جعل معنويات غردون في الحضيض.واغتم لذلك كثيرا.شرع السكان في اكل الكلاب والحمير والبغال .واستبدلن النسوة الذهب بربع ذرة..هزلت اجساد العساكر…وغارت منهم العيون..وفر اخرون لمعسكر المهدي في الجهة.الاخري..هربا من الموت.. عيونهم نصف مغمضة .تهتز الاهداب ويندلع اللهيب في الحشا…وتجف الاطراف… فتلقاهم الثوار بالإكرام والترحيب وأمر المهدي الامام بإطعام الجوعي وسقيا العطشي وذبحت الشياه تحت إشراف النجومي وأبوقرجة فشبع الناس وامنوا بعد فزع . اطلقت مدافع المهدي الامام 100 طلقة . ظن الاهالي ان المهدي انتصر علي حملة الانقاذ مما ثبط معنوياتهم.
كانت معركة كسر عظم ..بقاء او موت..النصر او الشهادة.
(2)
المهدي بنقاءه وبهاءه وامانته كان نزيها وعفيفا وهو يصدر وصاياه …لجيش الثورة المتاهب لتحرير المدينة….اذا نصركم الله الغردون لايقتل..الفقيه محمد الامين الضرير لايقتل..كل من استسلم ورمي سلاحه لاتقتلوه…كل من اغلق باب بيته عليه لاتقتلوه…ثم كبر عليه السلام بسيفه في اتجاه الخرطوم إيذانا ببدء الهجوم لتحرير عاصمة البلاد…حين بسط الليل ظلامه امتلأنا بالشوق الذي حوانا ..لتحرير البلاد من الغاصب الدخيل..اختلجت دواخلنا وغمرنا الفرح الدافق بالحرية القادمة…استطاعت قوات الامير ابوقرجة والامير النجومي والامير ودنوباوي احتلال الخرطوم في وقت وجيز …وفي خضم هذه اللحظات التي عادة ما يصاحبها الكثير من الانفلات الثوري …قتل غردون خلافا لاوامر المهدي الصريحة بالحفاظ علي حياته. وحدثت بعض التجاوزات التي نهي عنها القائد…الارض تمتد امامنا ممهده تتصاعد زخات الفرح واشارات النصر…ركضا سارت الحشود تحمل تعليمات المهدي بكل الانضباط.. ونحاول قدر الأمكان ان نردع المتفلتين .. وكنت اتضرع لله ان يحفظ الله فاطمة..واجدها سليمة. المهدي وودالنجومي كانا من الحرص بمكان علي ارواح المدنيين.. وعندما دخل المهدي المدينة ظافرا وجه الامير احمد ود سليمان امين بيت المال بارجاع كل امراة من اهل المدينة الي اهلها او اي قريب لها قبل غروب الشمس..لم يخطر علي بال احد ماشهدوه من هول..كالسيل احتلت الحشود المدينة .كلما اتذكر فاطمة انتفض ..الكل يثب مذعورا يطلب النجاة ..اختلط الحابل بالنابل.وغاصت المدينة وسط الدموع والاهات ..صراخ وبكاء …كانت لحظات رعب حقيقية…ثم اصدر المهدي منشوره الشهير بعد تحرير الخرطوم : ( ان النساء الخارجات من ققرة الخرطوم جميعا قد احببنا ان يعطين لازواجهن ولا يجوز لأحد من اصحابنا واحبابنا ان يتزوج منهن .فذوات الازواج يسلمن لازواجهن وكل من لازوج لها تكون لدي امين مامون .شخص يمت لها بصلة القربي… ويجري راحتهن..فالحذر من التزوج لاحد من نساء القياقر المذكورة صغيرة او كبيرة ثيبا او بكرا ومن تزوج بواحدة من المذكورات بدون نظر حكم الله فهو الجاني علي نفسه والسلام) .
وسُلمت الي فاطمة حيث كانت تقوم بسقي العطشي وتضميد الجرحي في تلك اللحظات الخاطفة…وجدتها يشوبها الحياء ..اطبقت عينيها حبا ..وقفت مذهولا لبرهة..لقد زلزل الفراق كياننا..
المدينة المحررة مليئة بمشاعر الفرح ..الحزن ..الالم والخراب. .لم تكن فاطمة مذعورة بوجهها الجميل …تغطي الجثث تزيح الكآبة وتحلم بغد جميل.. تحملت فاطمة لحظات غيابي والحرمان.التقيتها بعد انجلاء المعركة ..عيناها تفيضان حبا خالصا نقيا..تعانقنا..ولم نفترق حتي الموت.
كان المهدي صائما في يوم الاثنين 26 يناير وكان الزحف بقيادة عبدالرحمن النجومي من النيل الابيض .ومحمد عثمان ابو قرجة من ناحية النيل الازرق، اهتزت الصورة..اضطربت الارض وغامت السماء..كارثة حقيقية لجنود غردون وجيشه المحتل ..الموت والفجيعة والصقور تملاء سماء الخرطوم.. و راياتنا المنتصرة تجوب المدينة .. انتصرنا لشعبنا وامتنا …وصلي المهدي صلاة الشكر… وصلينا خلفه.
تحملت فاطمة لحظات غيابي والحرمان.التقيتها بعد انجلاء المعركة ..عيناها تفيضان حبا خالصا نقيا..تعانقنا..ولم نفترق حتي الموت.
ابوقرجة من ناحية بري قتل من قواد غردون ..البهنساوي…علي اغا..والكرسني..والقباني وموسي شوقي.
صخب وصراخ وعويل….قتل في ذلك اليوم المئات بل الآلاف من عسكر اجانب أذاقونا الويلات لسنين طويلة .وعندما وصلت حملة الانقاذ الانجليزية منطقة التمانيات علي مشارف الحلفايا ناداهم الناس بان الخرطوم قد حُرِّرت وسقط غردون ….واستدار البابورين فرجعا من حيث اتيا….