حرب السودان وقضايا التحول الثقافي والاجتماعي.
في منتصف أبريل من العام الماضي، اندلعت الحرب في السودان نتيجة محاولة انقلابية قادتها مليشيا الدعم السريع بدعم إقليمي وإسناد من بعض القوى السياسية الداخلية التي كانت تخطط لاختطاف الدولة السودانية. هذه المحاولة الفاشلة للاستيلاء على السلطة بالقوة تحولت سريعًا إلى حرب شاملة ضد السودانيين، وأسفرت عن وقوع العديد من الضحايا والانتهاكات الوحشية، كما استُبيحت الأعيان المدنية وممتلكات المواطنين. وقد تأثرت جراء ذلك جميع البُنى الثقافية في مناطق الحرب.
تضررت جميع مقار الإذاعة والتلفزيون القومي، وتوقفت أجهزة البث الإذاعي والصحف ودور العرض والمسرح. كما تم نهب المتحف القومي للآثار السودانية ودار الوثائق القومية وعدد من المتاحف والمكتبات الكبيرة التي كانت تشكل جزءًا من الوجدان والتراث القومي للسودانيين. وبذلك توقف النشاط الثقافي في السودان، خاصة في العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث: الخرطوم، بحري، وأم درمان.
وسط هذه الفوضى والدمار الذي خلفته الحرب في السودان، ظهر تأثير كبير على الحياة الثقافية والاجتماعية للمجتمع السوداني. فالهجمات الوحشية على المدنيين، ونهب المؤسسات الثقافية والمباني التاريخية الهامة، يكشفان أن الحرب لم تستهدف الأرواح البشرية فحسب، بل استهدفت أيضًا الهوية والتاريخ والثقافة السودانية.
تم تشريد العديد من المواطنين والمثقفين الذين كانوا يمثلون رئة المجتمع التي يتنفس بها وركيزته الأساسية في دعم الوحدة الوطنية وتماسك النسيج الاجتماعي. جاء تأثير الحرب على النشاط الثقافي بشكل واضح وقاسٍ للغاية، فقد توقفت عجلة الفنون والإبداع والنشاط المسرحي والثقافي، وواجه الفنانون والمثقفون صعوبة في التواصل وبناء شبكات التعاون التي كانت تساهم في استمرار الأعمال الثقافية والفنية بعد فقدانهم الماوي و أدوات العمل الخاصة والعامة.
لذا، من المهم إعادة النظر في كيفية استرداد هذه الأدوات الأساسية، ليتمكن المثقفون والفنانون من دعم خيارات شعبهم بالوقوف إلى جانب القوات المسلحة السودانية لاستعادة الأمن، وتحقيق السلام، وتعزيز الوحدة الوطنية والتضامن، من خلال تنظيم مشاريع ثقافية تدعم السلام وتعيد الأمن والاستقرار إلى السودان.
يتعين على المثقفين والفنانين في السودان أن ينظروا إلى الأمام وأن يتحدوا لاستعادة الأمن والسلام وتعزيز الوحدة الوطنية. يجب عليهم استخدام قدراتهم الإبداعية والتعبيرية لتصميم خطاب ثقافي يعزز السلام والتسامح ويدعم التعايش السلمي بين جميع الطوائف والثقافات في السودان. كما ينبغي عليهم أن يتحدوا ويعملوا معًا لبناء مستقبل أفضل للسودان في ظل التحديات الناجمة عن الحرب، التي قد تصبح مهددًا لوحدتنا الوطنية.
لذا، لا بد من نهوض المثقفين بتكويناتهم المختلفة للمساهمة في تصميم هذا الخطاب الوطني الذي يتسم بالتنوع والتسامح، ويعزز السلام. يجب عليهم توظيف قدراتهم الإبداعية والتعبيرية لإيجاد حلول للتحديات التي تواجههم وتواجه مجتمعنا، وتشجيع الحوار والتعاون بين جميع أفراد المجتمع السوداني.
إن جدلية الحرب والسلام في بلادنا تتطلب إعادة النظر في دور المثقفين والفنانين في بناء الفضاء الثقافي وتعزيز الوحدة الوطنية. في ظل استمرار تحديات الحرب والصراعات السياسية، يجب ألا يكون المثقفون في السودان جزءًا من هذا الصراع، بل عليهم اتخاذ خطوات فعالة لبناء مجتمع آمن ومزدهر. عليهم تصميم مشاريع ومبادرات ثقافية تعزز الهوية الوطنية وتؤثر إيجابيًا على التفاعل الاجتماعي والثقافي بين السودانيين، حيث يجب أن تبرز حكمة المثقف السوداني في المحافظة على وحدة البلاد أمام التحديات الداخلية و الإقليمية والدولية.
كما نعلم أن المؤسسات الثقافية في السودان تواجه تحديات هائلة في ظل الحرب جراء الصراعات السياسية المستمرة التي سبقتها. فقد أوجدت هذه الظروف واقعًا محيرًا بين المثقفين السودانيين وخلقت صعوبات في بناء شبكات التعاون وتبادل الخبرات على المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، بالإضافة إلى صعوبات تقنية نتيجة شح الموارد المادية والفنية للتطوير وتحسين القدرات الثقافية. ورغم المحاولات التي بذلها عدد من الفنانين، أمثال د. علي مهدي والأستاذ محمد السني دفع الله والبرفسور سعد يوسف والأستاذ مكي سنادة، إلا أن محاولاتهم تحتاج إلى دعم ورعاية الدولة في غياب آليات الدعم التي تمثل القطاع الخاص .
خلال زمن هذه الحرب، التي أوشكت على دخول عامها الثاني، فقد السودان عددًا من رموز الثقافة والفن السودانيين ، أمثال محمد المكي إبراهيم وعبد الكريم الكابلي والماحي إسماعيل وهاشم صديق ومحمد الأمين ونبيل متوكل، رحمهم الله جميعًا. فقد ظلوا مهمومين بالحراك الثقافي الوطني ومثلوا أدوات ومؤسسات فاعلة للإنتاج الثقافي والمعرفي الذي يعبر عن ممسكات الوحدة الوطنية.
من الضروري أن نعمل جميعًا لبناء مجتمع أفضل يسوده السلام والازدهار. لا شك أن للمثقفين والفنانين دورًا كبيرًا في هذا السياق، وعليهم تقديم إسهامات فعالة وإيجابية لتحقيق هذا الهدف. لذا، نرى “وجه الحقيقة” في ضرورة تعاون الجميع لتعزيز خطاب السلام. كما يجب على المجتمع الدولي أن يقف بجانب السودان في هذه الظروف الصعبة، ويدعم جهوده لتحقيق السلام والاستقرار. إن الثقافة والفن لهما دور مهم في تعزيز التسامح والفهم المتبادل، وهما جسر للتواصل بين الشعوب المختلفة. لذلك، علينا جميعًا العمل معًا لاستعادتها، لأنها تمثل دعمًا للوحدة الوطنية والتسامح في المجتمع، والتعاون من أجل بناء مستقبل أفضل للسودانيين .
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 13 نوفمبر 2024 م. Shglawi55@gmail.com