رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

ما بين كيكل ودموع البعاتي : سردية تُفبركها البطانة وتُسوّقها القيادة.

إبراهيم برسي
في بلدٍ أصبح فيه الكذب طقسًا سياديًا، والانشقاق مسلكًا لإعادة تدوير الولاء، لا يعود التصريح السياسي مجرد قول، بل بنية متكاملة لإنتاج الغفران من داخل الجريمة نفسها. هنا، لا تُستدعى الذاكرة إلا لتُعاد قولبتها، ولا يُستخرج المنشقّ إلا حين يصير لسانه صالحًا لتجميل وجه القاتل.
من بين ركام هذا المشهد، خرج أبو عاقلة كيكل، لا كشاهدٍ على المرحلة، بل كرسول لنسخة مُعدّلة من الحقيقة. تحدّث عن حميدتي، لا بوصفه الجنرال الذي جرّ الخراب إلى قلب الخرطوم وبقية المدن والقرى، بل كرجلٍ صائم، نحيل، يُعاني مشاكل في البطن، ويبكي إذا ذُكر أمامه الاغتصاب. قال إن الرجل ظل في الخرطوم حتى فبراير، محاطًا بدائرة تشويش تمتد مئة كيلومتر، وبقوة من 150 عربة مسلّحة، يُدير المعركة بنفسه ويتصل به خمس عشرة مرة في اليوم. وهي أيضًا إشارة إلى تصدير الرجل في المخيلة السودانية كفارس ظل يقود معاركه بنفسه.
هذه ليست رواية، بل تمهيد لسردية، كُلِّف بها كيكل بوصفه المنشقّ المسموح له بإعادة تعريف القاتل من جديد. سردية لا تتكئ على التوبة، بل على التمثيل. لا تنفي الجريمة، بل تُعيد توزيعها أخلاقيًا بين “من بكى” و”من تجاوز”. وما دموع حميدتي في هذا السياق إلا زينة المرحلة الانتقالية، تمهيدًا لغفرانٍ بلا حساب، ولا محكمة، ولا أسماء. تمامًا كما أُريد لهذا الشعب أن ينسى. وهي السردية نفسها التي أعادت إنتاج كيكل من مارق إلى بطل قومي.
هل قال كيكل ما قال؟ أم أن غرف “المليشيا” حرّفت كلامه؟ هكذا جاء النفي بعد الضجة، لا نفيًا للمضمون، بل للتوقيت. وهنا تحديدًا يصبح الكذب سياسة، والاعتراف إدارة أزمة. في كل الحالات، نحن أمام محاولة لتمرير صورة جديدة لحميدتي: الإنسان، الزاهد، الراعي الذي بكى حين هاج الذئب في القطيع. لكن الكاميرا لا ترحم، والتاريخ لا يُعدّل بتصريح صحفي أو بيان مكتوب تحت وطأة الذنب أو الرهبة.
مشكلة كيكل لا تكمن في انشقاقه، بل في محاولته أن يعبر من الجريمة إلى الطهر دون أن يغتسل، في خلطه بين دم الشهادة ودم الكفارة، وفي اعتقاده أن بإمكانه أن يكون راوياً ونقياً في آنٍ واحد. وهو، في حقيقة الأمر، لم يكن سوى مجسًّا لدرجة التشويش داخل المؤسسة العسكرية نفسها. فتفكك الدعم السريع لا يعني تماسك الجيش، بل يعني أن السلطة، كجهاز للقتل والتبرير، بدأت تأكل نفسها.
منذ أن انضم كيكل إلى الجيش في أكتوبر 2024م، بعد أن جاب مدن الجزيرة مدججًا بنفس أدوات القهر، كان واضحًا أن المرحلة الجديدة لا تريد محاسبة، بل إعادة توزيع أدوار. لم يُطلب منه أن يعتذر، بل أن يستمر في القتال من الجهة المقابلة، وهو ما فعله. لكن ما لم يُحتسب هو أن كيكل، في لحظة من “الرغبة في التفسير”، كشف أكثر مما ينبغي : كشف أن حميدتي لم يكن غائبًا، لم يكن معزولًا، لم يكن مصابًا. كان قائدًا، يُدير، ويعرف، ويصمت.
في تحليل إيريك فروم، السلطة لا تحتاج أن تبرر أفعالها حين تُسيطر على اللغة. يكفيها أن تصمت بدموع، أو أن تبتسم في جنازة. وكيكل، في سرده هذا، قدّم نموذجًا صارخًا على كيف يمكن لتشظي الانتماء أن يتحول إلى أداة لإعادة تلميع المجرم، لا لمواجهته. لقد صار شاهدًا لا ليُدين، بل ليُجمّل. وهذا أخطر من التواطؤ.
من قال إن الجيش لم يكن يعلم بمكان حميدتي؟ من صدّق أصلًا أن البعاتي مجرد حكاية موت؟ الحرب في السودان لا تُدار بغياب القيادات، بل بحضورها المتواطئ. وكل محاولة لفصل “القائد” عن “الانتهاكات” ليست إلا رغبة يائسة في حماية ما تبقى من رمزية الدولة، ولو بالدموع.
كيكل، الذي بكى بالنيابة عن حميدتي، لم يكن شاهدًا، بل راوٍ مأجور لسردية تُعاد كتابتها بأوامر من غرف الحرب. وحتى إن نفى، فقد قال ما قال، والنفي لا يُغيّر البنية العميقة للجريمة. بل يُضيف إليها طبقة جديدة من الإنكار المنهجي، تلك التي نعرفها جيدًا في سرديات الطغاة: حيث القاتل شفيف، والضحية غامضة، والذاكرة خاضعة للتشويش.
لكن كيكل — وهذا هو جوهر المسألة — لم يكن يتحدث باسمه، ولا بوصفه شاهدًا على الجريمة، بل بصفته أداة طيّعة في سردية أوسع، يُرجّح أنها خُطّت بعناية في ذهن الجنرال عبد الفتاح البرهان نفسه. فالذي أُحرِق في بورتسودان لم يكن فقط الميناء، ولا خزانات الوقود، ولا الأحلام البائسة للسواحل التي طُرحت في المزاد، بل الإحساس الأخير بأن المدينة آمنة من نار الحرب. ووسط هذا الانكشاف الصاعق لفشل السلطة في حماية “المنطقة التي نُقلت إليها الدولة”، كان لا بدّ من تحويل الانتباه، لا بإعلان حالة طوارئ جديدة، بل بإحياء “العدو القديم” في هيئة جديدة.
يبدو أن البرهان، وقد ضاقت عليه مبررات السلطة، بدأ يُلوّح لخصمه اللدود، حميدتي، لا كخصم، بل كقابل للترويض، كورقة قابلة للاستثمار. فمَن غير كيكل يمكنه تمرير ذلك؟ رجل خرج من حضن حميدتي، وانضم للجيش، ليُعيد إنتاج زعيمه السابق بملامح زهد وصمت ودموع؟ هو عرض سياسي ناعم، في هيئة اعتراف خشن، والغاية منه أن يُعاد تأهيل القاتل عبر المنشقّ، أن يُقدَّم حميدتي لا بوصفه كارثة، بل كشخص “قادر على الحزن”، وبالتالي “قادر على المراجعة”، وبالتالي “قادر على العودة”.
الكيزان، وهم مهندسو هذا الخراب الكلي، لا يمانعون. بل على العكس، هم في قلب هذه اللعبة. فحميدتي بالنسبة لهم ليس سوى أداة حرب خرجت عن السيطرة، ثم عادت تخطب ودّهم حين أدار له العالم ظهره. وهم، بحدسهم القديم، يعلمون أن عودة حميدتي إلى المشهد ليست نهاية اللعبة، بل ذروتها. أن يُقدَّم كشخص “ندم”، “صام”، “بكى”، ثم يُعاد ضمّه تحت سقف الوطن، هو تبرئة بأثر رجعي لهم جميعًا. هو إذابة للجريمة في وعاء “التسامح الوطني”، وهو ما يحتاجونه للعودة من شقوق الحرب التي أشعلوها.
لكن البرهان، في هذه اللحظة، ليس مجرد حليف تكتيكي. هو أيضًا خصم ذكي، يتقن استخدام الورقة قبل حرقها. ربما يريد أن يعيد حميدتي للمشهد، لا ليُشاركه الحكم، بل ليمهّد لتصفيته في العلن بعد أن يكون قد استنفد غرضه. فشعب منهك وخائف، لن يمانع لو سُوّق له أن حميدتي “اكتشف خطأه”، وتمّ استيعابه ثم التخلص منه تحت مظلة القانون. إنها اللعبة نفسها التي يُتقنها كل الطغاة: استخدام الجلاد كأداة تهدئة، ثم عرضه قربانًا على مذبح الشعب الذي لا تُمنح له العدالة إلا كعروض ترويجية.
وفي هذا السياق، فإن كيكل، بكل تناقضه، بكل نفيه وإثباته، ليس أكثر من مكبّر صوت لهذه المسرحية السوداء. هو لا يُخبرنا بما حدث، بل بما يُراد لنا أن نصدّقه، وهو في ذلك يشبه شهود الزور الذين يبكون في قاعات المحكمة بينما يبتسم القاضي. وما يُراد لنا أن نصدقه هذه المرة، هو أن القاتل ندم، وأن الحرب قد تُختم بدمعة، وأن الذين ماتوا يمكن نسيانهم إن بكى قاتلهم أمام الكاميرا.
فهل نُعيد حميدتي للمشهد بدموع كيكل؟ أم نعيد كيكل إلى الخلفية بدموع حميدتي؟ في كلتا الحالتين، ما زالت اللعبة تُدار من فوق، من هناك، حيث لا تخرج الكلمات من القلب، بل من المكاتب، ولا تُبنى المصالحة على العدالة، بل على هندسة الخوف، وترويض الغضب، وتسويق الخراب في هيئة ندم شخصي.
zoolsaay@yahoo.com

زر الذهاب إلى الأعلى