
بقلم : معاوية أبوالريش
تُعد قصيدة “يا ناعس الأجفان” للشاعر السوداني محمد بشير عتيق، والتي لحنها وغناها الفنان كرومة، إحدى لآلئ الشعر الغنائي السوداني الحديث. تنتمي القصيدة إلى مدرسة الشعر الرومانسي التي تغنت بالحب والجمال، وتمثل نموذجاً مثالياً للتوليف بين الأصالة والمعاصرة في التعبير الشعري السوداني.
” التحليل البنائي والجمالي”
المطلع: “يا ناعس الأجفان أنا من صفاك مسحور”
يبدأ محمد بشير عتيق قصيدته بنداء حميم يحمل في طياته كل معاني الشوق والافتتان. الوصف بـ”ناعس الأجفان” يستدعي صورة الجمال الهادئ المسكين، حيث النعاس هنا ليس دلالة على الكسل، بل على السكينة والوداعة التي تضفي سحراً خاصاً على العيون. كلمة “مسحور” تكشف عن حالة الشاعر النفسية وهو أسير هذا الجمال الآسر.
التساؤل الذي يليه “بالله انت ملاك والا من حسان الحور” يرتقي بالمحبوب إلى مرتبة الكمال الإلهي، فهو يتأرجح بين كونه ملاكاً طاهراً أو من حور الجنة. هذا التشبيه يحمل بُعداً روحانياً عميقاً يميز الشعر السوداني، حيث يمتزج الحب الأرضي بالتسامي الروحي.
المقطع الأول: صورة العذاب الحلو
في “تذرف عيوني بحور” نجد استعارة بليغة تحول الدموع إلى بحور، مما يوحي بغزارة البكاء وعمق الألم. الشاعر يقضي “الليالي قيام ما بين شوق وهيام”، وهنا تظهر دلالة دينية حيث القيام يذكر بالصلاة وقيام الليل، لكنه هنا قيام الحب والشوق.
“وارعي النجوم في سحور” صورة شعرية رائعة تجعل من الشاعر راعياً للنجوم، وكأنه يستأنس بها في وحشة الليل وطول السهر. السحور هنا يحمل دلالة الوقت المقدس قبيل الفجر، مما يضفي على التجربة بُعداً روحانياً.
“وفؤادي آه منحور” تشخيص للقلب بصورة الذبيحة، و”مقتول بغير سلاح” تأكيد على أن الحب هو السلاح الوحيد القادر على القتل دون إراقة دماء.
المقطع الثاني: الكمال المطلق
“فيك الكمال محصور” إعلان صريح بأن المحبوب يجمع كل صفات الكمال، وأن “حسنك مقامه يسود على كل جيل في عصور” يرتقي بالجمال إلى مرتبة الخلود عبر الأزمان.
“طرفك لحاظه تريع أسدا شجاع وهصور” صورة قوية تجعل من نظرة المحبوب سلاحاً قادراً على ترويع الأسود الشجعان، مما يدل على قوة التأثير والسحر الكامن في العيون.
“ليك نفرة الغزلان مع جبرة الفرسان في هيبة المنصور” تجميع رائع لصفات متضادة ظاهرياً: النفور الرقيق للغزلان والقوة الجبارة للفرسان، مجتمعة في هيبة الحاكم المنتصر.
المقطع الثالث: رقة الطبع ونعومة الحركة
“أهيف رشيق متبور” وصف للقوام بالرشاقة والنحافة المحببة، و”تتهادي تيه ودلال” تصوير لحركة المحبوب بين التيه المحبب والدلال الجميل.
“ما بين غرف وظلال نعمة وترف وحبور” يضع المحبوب في إطار من الترف والنعيم، مما يعكس البيئة الاجتماعية الراقية.
“وسهمك علي مهبور” استمرار لاستعارة الحب كحرب، حيث سهام المحبوب تصيب الهدف دائماً.
المقطع الرابع: البراءة والطهارة
“يا البي العفاف مشهور” إشادة بطهارة المحبوب وعفافه، وهي قيمة عليا في الثقافة العربية والإسلامية.
“نيدك عبير فياح وقوامك المياح أينع ثمار وزهور” تشبيه جميل للجسد بالطبيعة النضرة، حيث الرائحة كالعبير الفواح والقوام كالأشجار المثمرة.
“بي حبي دمعي جهور” الدموع هنا ظاهرة وعلنية، تعبيراً عن صدق المشاعر.
المقطع الخامس: مناجاة الليل والنجوم
“أنا في دجاك يا ليل نجمك بقالي خليل” مناجاة للليل كصديق وأنيس، والنجم كخليل يؤنس الوحدة.
“فارقت نومي دهور” تعبير عن طول معاناة الأرق بسبب الحب، حيث الدهور تدل على امتداد زمني طويل.
” الاستسلام والإقرار بالعجز”
“أنا من زمان مأسور هجراني ما هماك” إقرار بأن الأسر قديم وأن المحبوب لا يبالي بالهجران.
“وحياة خديدك وجيدك وطريفك المكسور” قسم بأجزاء من جسد المحبوب، مما يدل على التعلق الشديد.
“أنا شعري ما بيوفيك مهما أبالغ فيك منظومي والمنثور” اعتراف بعجز الشعر عن وصف الجمال المطلق، وهي خاتمة متواضعة تعكس أدب الشاعر وتواضعه.
“الخصائص الجمالية والفنية” الموسيقى الداخلية والخارجية
تتميز القصيدة بإيقاع موسيقي متدفق ينسجم مع المضمون العاطفي. عتيق استخدم بحراً يتيح له التعبير عن مشاعره بانسيابية، مع تنويع في الأوزان يكسر الرتابة ويضفي حيوية على النص.
” الصور الشعرية والاستعارات”
القصيدة غنية بالصور البلاغية المبتكرة: من تحويل الدموع إلى بحور، إلى رعاية النجوم، إلى تشبيه الجسد بالطبيعة المثمرة. هذه الصور تنم عن خيال خصب وقدرة على الربط بين عوالم مختلفة.
” اللغة والأسلوب”
يمزج الشاعر بين الفصحى والعامية السودانية بمهارة، مما يكسب النص طزاجة وأصالة. الكلمات السودانية مثل “جهور” و”مهبور” و”هصور” تضفي نكهة محلية مميزة دون الإخلال بالفهم العام.
” البنية الدرامية”
القصيدة تتبع بنية درامية متصاعدة: من الافتتان الأولي، إلى وصف الجمال، إلى التعبير عن المعاناة، وصولاً إلى الاستسلام والإقرار بالعجز عن الوصف.
قصيدة “يا ناعس الأجفان” تمثل نموذجاً راقياً للشعر الغنائي السوداني الحديث، حيث تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين العمق الفكري والجمال الفني. إنها قصيدة تتغنى بالحب الطاهر والجمال المقدس، وتعكس روح الثقافة السودانية في احترامها للقيم والأخلاق حتى في أشد لحظات الوجد العاطفي.
الشاعر محمد بشير عتيق نجح في خلق عمل فني متكامل يجمع بين قوة التعبير وجمال الصياغة وعمق المعنى، مما جعل من هذه القصيدة علامة مضيئة في سماء الأدب السوداني المعاصر.