
لم تبدأ المأساة الملهاة في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ .. بل في فجر مشؤوم جرت وقائعه في الثلاثين من يونيو ١٩٨٩ .. حين امتدّت أيادي تلاميذ المودودي وحسن البنا وسيد قطب لتجهز على آخر تجربة ديمقراطية في البلاد معلنة عن ميلاد دولة القمع العقائدي على أنقاض وطنٍ فسيفسائي التكوين .. لم يكن امتطاء الإسلاميين لظهور المجنزرات في ذلك اليوم انقلاباً عسكرياً تقليدياً بل كان انقلاباً على فكرة السودان نفسه؛ على تعدده وتنوعه وعمقه الحضاري الممتد من نبتة وكوش مروراً بمروي وعلوة والمقرة وصولاً إلى سلطنات سنار وكردفان ودارفور وتجلياتهم وامتداداتهم العبقرية في العمق الأفريقي ..
لم تأتِ الجبهة الإسلامية للحكم لتبني دولة، بل لتغنمها !! .. لم يكن في مشروعها ما يشير إلى مفهوم الدولة الوطنية الحديثة التي يتساوى فيها الجميع على أساس المواطنة، بل كان مشروعاً محكوماً بهاجس السيطرة والتمكين مدفوعاً بوهم الخلافة وشرعية السلطان المتغلب فاختزلت الوطن في جماعة، والدولة في تنظيم والمجتمع في اتباع وموالي ..
صاغت السلطة الجديدة هوية أحادية مزيفة لا تعبر عن شمول وتنوع السودان .. هوية مصطنعة قائمة على نمط تديّن شكلاني آيديولوجي مفرط التسييس نبذت كل من يخالفها .. ولم ترَ في أهلنا في الجنوب إلا كفاراً وجب فيهم الجهاد ولا في زنج دارفور إلا متمردين تعيّن قتالهم ولا في أصائل جبال النوبة إلا تهديداً ثقافياً يتحتم طمسه ومحوه .. كان كل ما خالف تخاييلهم وأوهامهم مشروعاً وهدفاً للإقصاء والإبادة!!
عبثوا بتاريخنا وبذاكرتنا .. بل وأحلامنا.. وأحالوا المؤسسة العسكرية إلى جندرمة لخدمة مشروعهم لا لحماية الوطن .. دثّروا آلة القمع بشعارات الجهاد،وصار القتل فضيلة، والحرب عبادة .. وتحول السودان في عهدهم من أقصاه إلى أقصاه لمستودع كبير للسلاح ومفرخة للمليشيات وتخضبت السهول والوديان والحواكير بدماء الأبرياء وتحوّرت المعارضة الشريفة إلى رِدة وخيانة.
سُيّست مؤسسات الدولة، وعُسكرت الحياة، ودُّجنت الجامعات، وتحولت الخدمة المدنية إلى ضِياع خاصة بالتنظيم. وفي الوقت الذي كان فيه السودان يُنحر من الوريد إلى الوريد، كانت الحركة الإسلامية تقتسم الغنائم، وتعيد تدوير موارد السودان باعتباره ضيعة خاصة لمنسوبيها. لم يكن هناك مشروع اقتصادي، ولا رؤية تنموية، بل منظومة فساد ممنهج، أُفرغت فيها خزائن الدولة لصالح شبكات الولاء والمحسوبية.
و أمام واحدة من أعظم الثورات المدنية التي شهدها التاريخ المعاصر ،لم تتواضع الـحركة الإسلامية أمام سيرورة التاريخ ولم تُقر بفشلها الذي أورد السودان المهالك بل أعادت إنتاج نفسها عبر صفقات خفية، وتحالفات أمنية لا عنوان لها سوى الـحربائية،وطفقت تزرع الألغام في طريق التغيير حتى لو كان ثمن ذلك هو “إراقة كل الدماء” .. وقد كان؛ لتتحول حرب السودان بكلفتها البشرية والإقتصادية الفادحة إلى أسوأ كارثة إنسانية يشهدها عالمنا المعاصر .
ما يحدث اليوم ليس سوى النتيجة المنطقية لمشروعهم، الذي بدأ قبل أكثر من ثلاثة عقود، وما زال ينهش في جسد الوطن المنهك بلا رحمة. الحركة الإسلامية هي من فرّغت الدولة من معناها، وبدّدت مواردها، وفتّتت نسيجها الاجتماعي، وحوّلت الجيش إلى أداة للتمكين، والمجتمع إلى سوق كبير للولاء والمحسوبية .. هم لا غيرهم من دشنوا مشروع الإنهيار .. وزرعوا الكراهية .. وذبحوا الوطنية على أعتاب المشروع الشمولي الإستبدادي .
من مذبحة رمضان، إلى حرب الجنوب، إلى دارفور، إلى تفكيك الخدمة المدنية، إلى تصفية القضاء والإعلام والجيش وكل مظاهر الدولة المدنية الحديثة التي تنتمي للقرن الحادي والعشرين وتعيش في وئام مع بقية العالم .. كلها حلقات في سلسلة واحدة: جريمة مستمرة بدأت بانقلاب ١٩٨٩ ولم تتوقف حتى اليوم .
ما يعيشه السودان اليوم وقد احترقت حواضره وبواديه و تشرد أهله بين المنافي ومعسكرات اللجؤ هو المآل الحتمي لمشروع الإسلاميين. الإنهيار لم يكن يوماً قدراً كُتب على السودان ، بل نتيجة حتمية مباشرة لاختيارات أيديولوجية مسمومة، أرادت إقامة “خلافة” على جماجم الأبرياء، وبناء مشروع ظلامي أحادي على أنقاض مجتمع ثري في تنوعه يتطلع إلى الالتحاق بركب الحضارة الإنسانية .
هاهو السودان يعود من وبالٍ إلى وبال – كنتيجة حتمية لخبال “المشروع الحضاري” – في رحلة عبثية توالت فيها النكبات وتواظبت الخطوب، ليسقط عمودياً في حالة تداعي حر يستعصى وصفها حتى على الخيال جامح التشاؤم ..
ها هو يعود، بعد أن إنفصل من خاصرته جنوباً، إلى عهود حروب القيمان التي تهدد بتمزيقه عمودياً نتيجة لخطاب العنصرية والتحشيد الأعمى .. ليضع الإسلام السياسي توقيعه الأخير على فصول المأساة الملهاة فيشعل الحريق وينثر الدماء على حواف ما تبقى لنا من تاريخ وجغرافيا
ولن يبدأ مشروع الخلاص الوطني ما لم يُسمى الجاني باسمه: الحركة الإسلامية وتنظيمها ومشروعها، بكل ما يمثله من فجيعة وخراب وصدع عميق ضرب شعب السودان ومستقبل أجياله في مقتل .. لا تسامح مع من اختطفوا الوطن لأكثر من ثلاثة عقود ، ولا إصلاح دون محاسبة كاملة للمنظومة التي سمّمت الحياة السودانية ودفعت البلاد إلى الهاوية..
لا يتحمل وزر الدم المسفوح في السودان سوى الحركة الإسلامية ولن تُفلت بجرمها أمام محكمة التاريخ ومرآته الصقيلة .
هذه هي الحقيقة التي يستميت الإسلامويون في تغبيشها في محاولتهم لإعادة كتابة التاريخ الذي تتسلق جدرانه الدماء جراء أفعالهم .. يحاولون كي الوعي الجمعي بسردية مبتذلة عن المليشيا المتمردة وكأنها قد هبطت على السودان من السماء وليست ذات الفرقة الإنكشارية المحظية التي ترعرعت في كنفهم وتوحشت على أيدي جلاوذتهم وأجاز قانونها مجلسهم الوطني بالإجماع .. يفعلون ذلك وهم يتنصلون من مسؤوليتهم عن الحرائق التي أشعلوها على امتداد الخارطة السودانية .. وهو شأنهم على مدار تاريخهم المخزي؛ ينكرون قتلاهم ويتدثرون بأكفانهم .
هذه هي وقائع المأساة الملهاة وهذا هو الجرح الذي لا يجب أن نغطيه بالسكوت..
حمزة عبد الله
يتبع…