
بقلم : معاوية أبوالريش
الأماني العذبة
أداء: خليل إسماعيل
هي النفس ماحملتها تتحمل
و للدهر أيـام تجــــور و تعدل
و عاقبة الصبر الجميل جميلة
و أفضل أخلاق الرجال التجمل
بكرة يا قلبي الحزين تلقى السعــــادة
تبقى هانـــــي و إبتساماتك معـــــادة
و الســـــرور يملا حياتي و يبقى زادها
و عيني تشبع نوم بعد ما طال سهادها
أنســى غلبــــــــــــــي غلبــــــــــــي
و الرياحيــن تمـــــــــــــــلا دربـــــــــي
و أمسح الدمع البسيل يسقي الوسادة
كم سهرت الليل و كم سالت دموعــــــي
و الألم في قلبي أصبح شي طبيـــــــعي
و الشبـــاب أفنيتو أبحث عن وجيــــــــعي
عشت راهب بين تراتيــــلي و خشـــوعي
بكــــــــــرة تتـــــــــحقق أمــــــــــــــاني
و الفؤاد يرتــــــاح و يتبـــــسم زمـــــــاني
و السعــــادة تكون جزاء صبري و صنيـــعي
الأماني العذبة تتراقص حيـــــــالي
و الأمل بسام يداعب في خيــــالي
حلم بكرة و ذكرى أيامي الخوالــــي
في عالم الشعر السوداني تتجلى أحياناً قصائد تعكس الحالة الإنسانية بكل تناقضاتها وأملها رغم الألم، وقصيدة “الأماني العذبة” التي أداها الفنان خليل إسماعيل تُعد نموذجاً رائعاً لذلك الشعر الذي يتأرجح بين معاناة الحاضر وإشراقة المستقبل. تقدم القصيدة رحلة نفسية عميقة لإنسان عانى وصبر، ولكنه يتشبث بأمل غد أفضل، في صورة شعرية تمزج بين الحكمة العربية الأصيلة والتجارب الإنسانية المعاصرة.
تتميز قصيدة “الأماني العذبة” بتنوع إيقاعي لافت، حيث تبدأ بمقطع من الشعر العمودي على بحر الطويل، ثم تنتقل إلى قالب التفعيلة المغنى بإيقاع أكثر انسيابية في المقاطع التالية. هذا التنوع الإيقاعي يعكس بشكل فني الانتقال من الحكمة العامة في بداية القصيدة إلى التجربة الذاتية العميقة في باقي القصيدة. المقطع الأول يأتي على نمط الشعر العربي التقليدي بقوافيه المنضبطة (تتحمل، تعدل، جميلة، التجمل)، مما يعطي القصيدة أساساً راسخاً من الحكمة، بينما تنساب باقي المقاطع بحرية أكبر تعكس تدفق المشاعر والأحاسيس.
يشكل التكرار عنصراً بارزاً في الإيقاع الداخلي للقصيدة، فتكرار كلمة “بكرة” في مفتتح المقطع الثاني والمقطع الثالث يؤكد على محورية الأمل في المستقبل، وتكرار عبارة “غلبي غلبي” يجسد حجم المعاناة من خلال التأكيد اللفظي. كما أن تكرار حرف العطف “و” في بداية العديد من الأسطر يخلق إيقاعاً متصلاً يعبر عن استمرارية الرحلة النفسية. هذه التكرارات تمنح القصيدة نغمة موسيقية خاصة تتجاوز الوزن العروضي إلى موسيقى داخلية تنبض بالحياة والأمل.
تزخر القصيدة بصور تشخيصية تمنح المجردات صفات الكائنات الحية، مثل “الأماني العذبة تتراقص حيالي” في صورة بصرية تجسد الأماني في هيئة راقصات تتحرك بخفة وفرح، و”الأمل بسام يداعب في خيالي” في تشخيص للأمل في صورة إنسان باسم يداعب خيال الشاعر، و”يتبسم زماني” في تشخيص للزمان الذي يتحول من عابس إلى متبسم في المستقبل المأمول. هذه الصور التشخيصية تضفي حيوية على المعاني المجردة وتجعلها أقرب إلى وجدان المتلقي.
تعتمد القصيدة على ثنائيات ضدية تعكس تناقضات التجربة الإنسانية، مثل “أيام تجور وتعدل” في مقابلة بين الجور والعدل في تقلبات الزمان، وثنائية “الحزن والسعادة” المحورية في القصيدة، و”الدمع البسيل” مقابل “الرياحين تملا دربي” في مقابلة بين الألم والأمل، و”سهرت الليل” مقابل “تشبع نوم” في التناقض بين الأرق والراحة. هذه المقابلات تصور رحلة إنسانية كاملة من الألم إلى الأمل، ومن المعاناة إلى الراحة.
تتجلى براعة التصوير الاستعاري في القصيدة من خلال “الدمع البسيل يسقي الوسادة” في استعارة مكنية تصور الدموع كمطر يسقي الوسادة، و”عشت راهب بين تراتيلي وخشوعي” في استعارة تصريحية تشبه حياة الشاعر بحياة الراهب في تفرغه للألم والمعاناة، و”الشباب أفنيتو” في كناية عن طول المعاناة وضياع سنوات العمر في البحث عن الراحة.
تتوزع مفردات القصيدة بين معجمين دلاليين رئيسيين: معجم الألم والمعاناة الذي يضم مفردات مثل “الحزين، سهرت، دموعي، الألم، وجيعي، غلبي، الدمع البسيل” والتي ترسم صورة للمعاناة والألم، ومعجم الأمل والمستقبل الذي يضم مفردات مثل “بكرة، السعادة، إبتساماتك معادة، السرور، الرياحين، الأماني العذبة، الأمل بسام” والتي تنتمي لحقل التفاؤل والأمل. هذا التقابل المعجمي يجسد الثنائية المحورية في القصيدة بين واقع مؤلم ومستقبل مأمول.
تقوم القصيدة على تداخل ثلاثة أزمنة: الماضي في “كم سهرت الليل” و”أيامي الخوالي”، والحاضر في “الألم في قلبي أصبح شيء طبيعي”، والمستقبل في “بكرة يا قلبي الحزين تلقى السعادة”. هذا التنقل بين الأزمنة يعكس حركة النفس الإنسانية بين الذكريات والواقع والأمل، مع تركيز واضح على المستقبل باعتباره مفتاح الخلاص.
تقدم القصيدة فلسفة حياتية تقوم على الصبر كسبيل للخلاص، حيث تلخص عبارة “عاقبة الصبر الجميل جميلة” رؤية القصيدة للصبر كفضيلة تثمر في النهاية، وتؤكد عبارة “السعادة تكون جزاء صبري وصنيعي” على العلاقة السببية بين الصبر والسعادة. هذه الفلسفة تمثل امتداداً للتراث الثقافي العربي الذي يعلي من قيمة الصبر ويراه طريقاً للنجاة.
تتبع القصيدة مساراً تصاعدياً يعكس التحول النفسي من المعاناة إلى الأمل، فالمقطع الأول يؤسس قاعدة فلسفية للصبر والتحمل، والمقطع الثاني يصور حالة الحزن الراهنة مع بذور الأمل في الغد، والمقطع الثالث يعرض عمق المعاناة مع إصرار على تحقق الأماني مستقبلاً، والمقطع الرابع يبلغ ذروة التفاؤل برؤية الأماني العذبة وهي تتراقص. هذا التدرج الفني يجعل القصيدة أشبه برحلة نفسية متكاملة من قاع المعاناة إلى قمة الأمل.
تبدأ القصيدة بمقطع حكمي يشبه المقدمة الفلسفية: “هي النفس ماحملتها تتحمل… وأفضل أخلاق الرجال التجمل”. هذه الحكمة تضع التجربة الشخصية في إطار إنساني أوسع، فتحول المعاناة الفردية إلى تجربة إنسانية شاملة، وهو أسلوب يذكرنا بالمطالع الحكمية في القصائد العربية القديمة.
تمثل قصيدة “الأماني العذبة” نموذجاً فريداً للشعر السوداني الذي يجمع بين أصالة التراث وحداثة التجربة. تمزج القصيدة بين الحكمة الفلسفية والتجربة الذاتية، وبين الصبر الإنساني والأمل المتجدد. ما يميز هذه القصيدة هو قدرتها على تحويل المعاناة الشخصية إلى تجربة جمالية، ورسم صورة مشرقة للمستقبل رغم قتامة الحاضر. وكأن الشاعر يقدم لنا درساً في الصمود الإنساني والتشبث بالأمل مهما اشتدت المحن.
تظل “الأماني العذبة” شهادة على قدرة الروح الإنسانية على تجاوز آلامها والتطلع إلى غد أفضل، ودليلاً على أن الشعر – في أنقى صوره – ليس مجرد تعبير عن الواقع، بل هو محاولة لتجاوزه والارتقاء به إلى آفاق أكثر إشراقاً وأملاً.