
بقلم : معاوية أبوالريش
في خضم الإبداع الشعري السوداني، تبرز قصيدة “بحر المودة” للشاعر السر عثمان الطيب كجوهرة نادرة تعكس عمق الوجدان السوداني وأصالته. غناها الفنان محمد جبارة بصوت شجي يحمل شحنات عاطفية مؤثرة، وقدمها بلهجة الشايقية العامية التي أضفت عليها طابعاً محلياً أصيلاً مع قدرة فائقة على التعبير عن المشاعر الإنسانية الكونية.
تنطلق القصيدة من صرخة المغترب الذي أبعده القدر عن أمه ووطنه: “شوفي الزمن يا يمة ساقني بعيد خلاص جرعني كاس”. وهنا تبدأ رحلة الشاعر في استدعاء صور الأم المتعددة، التي لا تقتصر على الأم الحقيقية، بل تمتد لتشمل الوطن والتراب والذكريات والهوية.
يبدع الشاعر السر عثمان الطيب في نسج صور شعرية متعددة للأم، يستمدها من الطبيعة والكون، فهي “نور الصباح” الذي يبدد الظلام، وهي “البدر المشع” الذي يضيء ليل المغترب القاتم، وهي “فيض الحنان” الذي لا ينضب. لكن أجمل تشبيه هو ذلك الذي اختير عنواناً للقصيدة: “يا يمة يا بحر المودة وقت يفيض” – فمحبة الأم بحر عميق متدفق، يفيض بالعطاء والرحمة والاحتواء.
تتميز القصيدة بقدرتها الفائقة على استحضار المشاهد الحياتية اليومية بتفاصيلها الدقيقة، محولة إياها إلى لوحات فنية نابضة بالحياة. نرى الأم في الصباح الباكر وهي تحمل “الحليلة” (وعاء اللبن) متجهة إلى “المراح” (مكان رعي المواشي)، بينما يصدح ديك الصباح معلناً بداية يوم جديد: “والساعة يادوبو ديكنا بدا الصياح”. ثم نراها في الظهيرة وهي توقد النار وتعد الطعام: “صالاك نار الدوكِ عستيلنا الفطير”، وفي المساء وهي تنوِّم الأطفال برفق: “وقت الخلوق ترقد تنوم”.
يحمل الشاعر ذاكرة حسية غنية، فهو لا يتذكر المشاهد البصرية فحسب، بل يستحضر الروائح والملمس والأصوات أيضاً. إنه يتذكر “ريحة التمر فوق الهدوم” و”ناعم ترابها على جسيماتهم رقد”، ويسمع صوت “الطير صغاروا يغردن”. هذه الذاكرة الحسية تنقل المتلقي إلى عالم القصيدة بكل حواسه، فيعيش تجربة الحنين كما يعيشها الشاعر.
تجسد القصيدة معاناة الاغتراب الممزوجة بالشوق للوطن. يقول الشاعر: “والشوق يلفْ جنحينو بي فوق لي يحوم”، فالشوق كائن حي له أجنحة تحوم فوق المغترب. وعندما يأتي زوار من البلد، ينتكس جرح الغربة ويشتعل الحنين من جديد: “و الشوق اواري بيشتعل كان ظني فيهو يكون خمد”. ثم تبلغ القصيدة ذروتها العاطفية عندما يصور الشاعر مشهد وداع الزوار: “خلوني وحدي بلا أنيس كيف إنفرادي أتحملوا”، وهي صرخة الوحدة التي يعانيها كل مغترب.
تتميز اللغة الشعرية في القصيدة بإيقاعها الموسيقي العذب، الذي يتجلى في اختيار المفردات ذات الجرس الخاص، وفي القوافي الداخلية المتناغمة. نسمع ذلك بوضوح في مقاطع مثل: “دمعاتي شانو بينزلن” و”في الدغش النسايمو يهبهبن”، حيث تضفي النون في نهاية الأفعال إيقاعاً منسجماً يشبه أنين المشتاق.
أما نهاية القصيدة، فتأتي على شكل رجاء وتوسل: “يا يمة رسلي لي عفوكِ ينجيني من جور الزمان”. وهنا تتجلى فلسفة عميقة تربط بين العفو والخلاص، فكأن المغترب يحمل ذنب المغادرة، ولا خلاص له من “جور الزمان” إلا بعفو الأم/الوطن.
“بحر المودة” ليست مجرد قصيدة حنين عادية، بل هي وثيقة إنسانية تعبر عن العلاقة المقدسة التي تربط الإنسان بأمه وبوطنه. إنها قصيدة تتجاوز حدود اللغة والثقافة المحلية لتخاطب الإنسان في كل مكان، لأنها تلامس تجربة إنسانية عالمية هي تجربة الفراق والحنين. وعبر لهجة الشايقية المحلية بمفرداتها الثرية وإيقاعها الخاص، استطاع الشاعر السر عثمان الطيب أن يقدم تحفة شعرية خالدة تضاف إلى سجل الإبداع السوداني الأصيل، وتظل شاهدة على قدرة اللهجات المحلية على حمل المعاني الإنسانية العميقة.
وتبقى هذه القصيدة التي غناها محمد جبارة ببراعة، صوتاً يتردد صداه في قلوب المغتربين السودانيين أينما حلوا، يذكرهم بالجذور ويربطهم بالأصول، ويشعرهم بالانتماء للأرض والتراب والتاريخ. إنها جسر يعبر به المغترب من ضفة الغربة والضياع، إلى ضفة الهوية والانتماء، حاملاً معه أمل العودة والاحتضان في “بحر المودة” الذي لا ينضب.