رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

” نهب باسم الدين: كيف سرقت الحركة الإسلامية ثروات السودان؟”

IMG 20250515 WA0001
بقلم : معاوية أبوالريش
عندما ترفع الشعارات الدينية الرنانة في وجه الشمس، بينما تمتد الأيدي في الظلام لاقتسام الغنائم، تتحول الأوطان إلى مسرح للنهب المنظم. هذا ما شهده السودان طوال ثلاثة عقود من حكم المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، حيث تم تفكيك وبيع مؤسسات الدولة بطريقة منهجية أذهلت المراقبين بحجمها وجرأتها.
” الشعارات البراقة والواقع المرير”
“لا لدنيا قد عملنا، نحن للدين الفداء”، و”فليعد للدين مجده أو ترق منا الدماء”… شعارات رددها قادة الحركة الإسلامية بصوت عالٍ، بينما كانت أياديهم تعمل في صمت على تفكيك الدولة السودانية قطعة قطعة، وبيع أصولها بأبخس الأثمان.
الدكتور حسن الترابي، عراب الحركة الإسلامية نفسه، اعترف بعد المفاصلة وانشطار الحزب إلى المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، بأن قيادات الحركة “أكلوا المال العام أكلاً عجيباً”. اعتراف صادم من رجل كان يوماً أحد منظري المشروع الحضاري المزعوم.
” جرد لعمليات النهب المنظم”
ما حدث في السودان لم يكن مجرد فساد عادي، بل كان عملية تفكيك منهجية للدولة ومؤسساتها.
الأصول السيادية:
لم تسلم حتى رموز السيادة الوطنية من النهب، فقد تم التصرف في الجنسية والجواز السوداني، وبيعت سواكن، وميناء بورتسودان. كما تم تصفية وبيع أسطول طائرات الناقل الوطني “سودانير” الذي كان يمثل رمزاً للسيادة والفخر الوطني، وهي منشآت تمثل العمود الفقري لأي دولة ذات سيادة.
المرافق العامة والخدمات:
تم تفكيك المؤسسات الخدمية الأساسية مثل الهيئة القومية للكهرباء، والمواصلات السلكية واللاسلكية، والنقل المكانيكي، وهيئة البريد والبرق. هذه المؤسسات التي بنيت بجهد أجيال من السودانيين، تحولت إلى ملكيات خاصة في غضون سنوات.
الأصول الزراعية والاقتصادية:
مشروع الجزيرة، الذي كان يوماً فخر السودان ونموذجاً للتنمية الزراعية في إفريقيا، تم تفكيكه وبيعه. مشاريع النيل الأبيض والأزرق للإعاشة، ومشروع الكناف بأبو نعامة، ومئات الآلاف من الأفدنة الزراعية بيعت لمستثمرين أجانب بأسعار زهيدة.
التعليم والصحة:
لم تسلم المؤسسات التعليمية والصحية من النهب، فقد تم الاستيلاء على أراضي مدارس المرحلة المتوسطة بعد دمج المرحلتين الإبتدائية والمتوسطة ، والتصرف في أراضي جامعة الخرطوم والجامعة الإسلامية، وخصخصة مستشفيات حيوية مثل مستشفى الخرطوم ومستشفى جعفر بن عوف والسلاح الطبي.
التمثيل الخارجي:
حتى التمثيل الدبلوماسي للسودان في الخارج لم يسلم، فقد تم بيع مقر السفارة السودانية بجدة، وبيت السودان في لندن وجنيف، بل وصل الأمر إلى بيع قنصلية السودان بالهند للكويت.
النقل والمواصلات:
تم تفكيك قطاع النقل بالكامل، بدءاً من الخطوط البحرية السودانية (سودان لاين) التي كانت تضم 15 باخرة، مروراً بالنقل النهري، وانتهاءً بخط السكة حديد. كما تم بيع خط هثرو الجوي الذي كان يربط السودان بالعالم.
” خسارة وطن بأكمله”
بلغت عمليات التفكيك ذروتها بانفصال جنوب السودان، الذي يمثل خسارة مساحة شاسعة من أراضي البلاد وثرواتها النفطية والمائية. لم تكن هذه خسارة سياسية فحسب، بل كانت نتيجة لسياسات فاشلة وإدارة كارثية للتنوع والحكم.
الإحصاءات تكشف حجم المأساة: 9.99% من جملة الأراضي المستولى عليها حول العالم كانت في السودان، مما جعله رابع أكثر الدول في العالم التي تم الاستيلاء على أراضيها الزراعية بعد جمهورية الكونغو الديمقراطية.
” ازدواجية الخطاب”
المفارقة المؤلمة أن كل هذا النهب المنظم كان يتم تحت غطاء من الشعارات الدينية والأخلاقية. كان الخطاب العلني للسودانيين والسودانيات يتحدث عن نصرة الدين وإقامة المشروع الحضاري الإسلامي، بينما كانت الممارسات الفعلية تقوض أسس الدولة وتنهب مقدراتها.
يقول الدكتور الترابي في اعترافه الشهير: “لقد أكلوا المال العام أكلاً عجيباً”، وهو اعتراف يكشف حجم الفجوة بين النظرية والتطبيق، بين الشعار والممارسة.
” نتائج النهب المنظم”
أدت هذه السياسات إلى تدمير البنية التحتية للدولة السودانية، وإضعاف قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها. و تحول السودان من بلد كان يوصف بأنه “سلة غذاء العالم العربي” إلى دولة تعاني من أزمات اقتصادية متلاحقة وانهيار في مستوى المعيشة.
الشعب السوداني، الذي وُعد بالرخاء والتمكين تحت حكم المشروع الحضاري، وجد نفسه يعاني من الفقر والبطالة وانهيار الخدمات الأساسية. وبينما كان المواطن العادي يكافح من أجل لقمة العيش، كانت طبقة من المنتفعين والمحسوبين على النظام تتمتع بثروات طائلة تم تحصيلها من نهب المال العام.
ما حدث في السودان خلال حكم المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية يمثل درساً قاسياً في كيفية استخدام الدين كغطاء للفساد والنهب المنظم. لقد تم استغلال المشاعر الدينية للشعب السوداني لتمرير أجندة اقتصادية وسياسية أدت إلى تفكيك الدولة وإضعافها.
اليوم، وبعد سقوط نظام البشير، وبعد أن تضع هذه الحرب العبثية أوزارها سوف يصبح من الضروري إجراء مراجعة شاملة لكل عمليات البيع والخصخصة التي تمت خلال حكم المؤتمر الوطني، واسترداد ما يمكن استرداده من أصول الدولة، ومحاسبة المتورطين في نهب المال العام.
إن مستقبل السودان يعتمد على قدرة أبنائه على إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس جديدة من الشفافية والنزاهة والمساءلة، بعيداً عن استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية.
حان الوقت لأن يتعلم السودانيون درس التاريخ: أن الشعارات البراقة وحدها لا تبني دولاً، وأن الدين الحقيقي يتجلى في العدل والنزاهة وحفظ المال العام، لا في الشعارات والخطب الرنانة.

زر الذهاب إلى الأعلى