
بقلم : معاوية أبوالريش
في عالم الشعر الغنائي السوداني المعاصر، تبرز قصائد قليلة بقدرتها على اختراق القلوب وإيقاظ المشاعر الكامنة في أعماق النفس البشرية. وتأتي قصيدة “غلطان بعتذر” للشاعر مصطفى سند كواحدة من هذه الجواهر النادرة، التي حملت في طياتها عمق الندم الإنساني وجمال الاعتراف بالخطأ، لتتحول على لسان الفنان صلاح مصطفى إلى لوحة موسيقية تحكي قصة الحب والخطأ والتوبة.
البوح الأول: “ما عدت قادر أنتظر”
تبدأ القصيدة بصرخة صادقة من القلب: “ما عدت قادر أنتظر، سامحني غلطان بعتذر”. هنا يكشف الشاعر عن حالة من العجز والإرهاق النفسي، حيث يصل المحب إلى نقطة اللاعودة من الصبر. الجملة الأولى تحمل في طياتها استسلاماً مؤلماً، بينما الثانية تحمل بذرة الأمل في المسامحة.
الجمال في هذا المطلع يكمن في بساطته المخادعة، فالكلمات البسيطة تحمل عمقاً عاطفياً هائلاً. كلمة “غلطان” تحديداً تحمل في اللهجة العامية السودانية قوة تعبيرية أكبر من “مخطئ” الفصحى، فهي تنقل الاعتراف بالذنب مع لمسة من التواضع والبراءة.
” عتاب الذات وقسوة الحبيب”
“ما كنت قايل من عتاب، تحكم علي بالوحدة و الشوق والعذاب”
في هذين البيتين، يرسم سند صورة مؤثرة للعتاب غير المتوقع، حيث يستخدم الفعل “تحكم” ليضفي طابعاً قضائياً على الموقف. الحبيب هنا يصبح قاضياً يصدر حكماً قاسياً بالوحدة والشوق والعذاب. هذا التصوير يكشف عن عمق الألم الذي يشعر به المحب، حيث أصبح الحب محكمة والحبيب قاضياً لا يرحم.
الجمال هنا في استخدام التدرج من “الوحدة” إلى “الشوق” إلى “العذاب”، وكأن الشاعر يرتب مراحل الألم تصاعدياً.
” ذكريات الماضي الجميل”
“إنت القبيل شلت الصعاب ،شلت الصعاب في دربو عديت ألف باب”
هنا يستحضر الشاعر ذكريات الماضي الجميل، حيث كان الحبيب سنداً وعوناً في مواجهة صعاب الحياة. استخدام “شلت الصعاب” يحمل معنى المشاركة الفعلية في تحمل الأعباء، وليس مجرد الدعم المعنوي. والصورة الشعرية “عديت ألف باب” تشير إلى رحلة طويلة من النضال والسعي، كان الحبيب فيها رفيق درب حقيقي.
“جمال الحبيب وطلب الوفاء”
“لو إنت زهو الحسن في عيونك بدا، خليك أمين في العشرة لي آخر مدي”
يستخدم الشاعر هنا أسلوب الشرط بـ”لو” ليس للتشكيك، بل للتأكيد على حقيقة جمال الحبيب. “زهو الحسن” تعبير بديع يجمع بين الجمال والفخر به، أما “خليك أمين في العشرة” فهو طلب مؤثر للبقاء على العهد والوفاء للعلاقة العاطفية.
“الخوف من النسيان”
“لو تنسى لهفة قلبي ليك، تنسى الحنان الكان لديك”
هنا يكشف الشاعر عن أعمق مخاوفه: النسيان. “لهفة قلبي ليك” تعبير يحمل قوة عاطفية هائلة، حيث اللهفة تشير إلى الشوق المتأجج والحنين العميق. والطلب هنا مؤثر: لا تنس حبي لك، ولا تنس الحنان الذي كان عندك لي.
” صورة شعرية رائعة”
“لو مرة إسمك في البعيد شايلو الصدى ، بلل نسايمو الحلوة بي قطر الندى”
هذان البيتان يشكلان واحدة من أجمل الصور الشعرية في القصيدة. الشاعر يتخيل أن اسم الحبيب يحمله الصدى في البعيد، وأن النسائم العذبة تتبلل بقطرات الندى وهي تحمل هذا الاسم. هذه الصورة تجمع بين حواس السمع واللمس والبصر، وتحول الاسم إلى عنصر طبيعي يتفاعل مع عناصر الطبيعة الأخرى.
” الخضوع والاستسلام”
“تلقاني واقف مرتعش طايع يديك”
صورة مؤثرة للخضوع والاستسلام، حيث يصور الشاعر نفسه واقفاً مرتعشاً، مطيعاً ليدي الحبيب. الارتعاش هنا يحمل دلالات متعددة: الخوف، الشغف، والانفعال العميق.
” فلسفة الحب والخطأ”
“عارف تمام بالمستحيل كتير، الحسن و الطبع النبيل ، يغضب يجور”
هنا يقدم الشاعر فلسفة عميقة عن طبيعة الحب والجمال. فهو يعترف بأن من المستحيل ألا يخطئ الإنسان، حتى لو كان جميلاً ونبيل الطبع. هذا اعتراف بالطبيعة البشرية وقابليتها للخطأ، حتى في أنبل حالاتها.
“لحظات خصاموالمرة تتمدد شعور”
صورة بديعة لكيف تمتد لحظات الخصام المريرة وتتوسع مشاعرها، وكأن الوقت يتمدد ويطول عندما نكون في حالة صراع عاطفي.
” الإقرار بالحب الثابت”
“صدقني لو أغلط معاك، دايما أقول إنت الأصيل إنت الوفي، عن حبي ما ممكن يميل”
هنا يؤكد الشاعر على ثبات حبه رغم أخطائه. استخدام “الأصيل” و”الوفي” يحمل دلالات عميقة في الثقافة العربية، حيث الأصالة والوفاء من أعلى القيم.
” الختام المفعم بالأمل”
“يضحك سلام الدنيا في عيونك تلين، من بعدو ما داير قليل”
يختتم الشاعر بصورة مفعمة بالأمل، حيث السلام يضحك في عيون الحبيب، والقلب لا يريد سوى القليل: المسامحة والعودة.
“أداء صلاح مصطفى: روح تتقمص النص”
لا يمكن الحديث عن هذه القصيدة دون الإشادة بالأداء الاستثنائي للفنان صلاح مصطفى، الذي تمكن بصوته الدافئ وأدائه المعبر من تحويل الكلمات إلى مشاعر حية تسري في عروق المستمع. صوته حمل كل نبرة ألم وكل لمسة أمل في النص، وكأنه يعيش التجربة بكل تفاصيلها.
إن قدرة صلاح مصطفى على التنويع في النبرات وإيصال المعنى العميق لكل كلمة، جعلت من هذه الأغنية تحفة موسيقية حقيقية تتجاوز حدود الفن لتصل إلى أعماق التجربة الإنسانية في الحب والندم.
“اللحن: جسر بين الكلمة والقلب”
واللحن الذي يحمل هذه الكلمات ليس مجرد إطار موسيقي، بل هو جسر حقيقي يصل بين الكلمة والقلب. كل نغمة تتناغم مع المعنى، وكل صمتة موسيقية تحمل في طياتها عمق الشعور. اللحن هنا لا يزين الكلمات فحسب، بل يكمل معناها ويضيف إليها أبعاداً عاطفية جديدة.
“غلطان بعتذر” ليست مجرد أغنية، بل هي اعتراف إنساني عميق بالخطأ والرغبة في الإصلاح. إنها درس في التواضع والصدق مع الذات والآخر. في عالم يملؤه الكبر والعناد، تأتي هذه القصيدة لتذكرنا بأن الاعتذار ليس ضعفاً، بل قوة وشجاعة.
إن الجمال الحقيقي لهذا العمل يكمن في قدرته على لمس القلوب وإيقاظ المشاعر النبيلة في النفس البشرية. فكل منا يحتاج أحياناً لأن يقول “غلطان بعتذر”، وكل منا يحتاج لأن يسمع هذه الكلمات من الآخرين.
هكذا تصبح القصيدة مرآة نرى فيها أنفسنا، وتصبح الأغنية بلسماً يداوي جراح القلوب المتعبة، وتصبح كلمات مصطفى سند وصوت صلاح مصطفى رسالة حب وسلام في عالم يحتاج إلى المزيد من الصدق والمسامحة.