رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

” عشرون ألف ريال ثمن المعاناة.. متى ينتهي استنزاف الحجاج السودانيين؟”

بقلم : معاوية أبوالريش
يا من تسمعون أنين الحجاج وتصمون آذانكم ، يا من تشاهدون دموع المؤمنين و تغمضون أعينكم ، ألا تستحون من الله الذي تدّعون خدمة ضيوف بيته الحرام؟ عشرون ألف ريال سعودي دفعها كل حاج سوداني هذا العام، بيع من أجلها البيت والأرض والذهب، واقترض الآباء لتحقيق حلم العمر في زيارة بيت الله، فماذا وجدوا؟ وجدوا جحيماً من المعاناة يحرق القلوب قبل الأجساد.
في كل عام تتكرر المأساة ذاتها، وكأن قدر الحاج السوداني أن يدفع ثمناً مضاعفاً: ثمن الرحلة من جيبه، وثمن المعاناة من كرامته وصحته وراحة باله. فيديوهات مؤلمة ومقاطع صوتية محزنة تنتشر كالنار في الهشيم، تحكي قصص معاناة لا تصدق من أناس تركوا أهلهم وديارهم وقطعوا آلاف الأميال ليقفوا بين يدي ربهم، فوجدوا أنفسهم في مواجهة إهمال مقيت وتقصير مخجل يندى له الجبين.
أين الطعام الذي يليق بكرامة الإنسان المسلم؟ أين المسكن النظيف الذي يحفظ صحة الحاج وراحته؟ أين الرعاية الطبية التي تحمي أرواح هؤلاء المسنين والمرضى الذين جاءوا يطلبون من الله الشفاء والعافية؟ كل هذا غائب، مفقود، منسي، وكأن الحجاج السودانيين ليسوا بشراً لهم حقوق وكرامة.
المؤلم أكثر أن هيئة الحج والعمرة السودانية تحولت إلى شركة خاصة تُدار وفق أهواء القائمين عليها، لا وفق ضوابط الخدمة العامة أو أخلاق المسؤولية. نفس الوجوه كل عام، نفس الأسماء، نفس الفشل المتكرر، من أمير الحج إلى أصغر عامل في البعثة. دائرة مغلقة من المحسوبية والمصالح الشخصية، يحمي بعضها بعضاً، ويغطي الفاشل على أخيه الفاشل، بينما الحجاج الضعفاء يدفعون الثمن من دمائهم ودموعهم.
عشرات المسؤولين الحكوميين من المركز والولايات يسافرون ضمن البعثة على النفقة العامة، يأكلون من أجود الطعام، وينامون في أفخر الفنادق، ويتقاضون الحوافز والبدلات من الأموال التي جمعوها من جيوب الحجاج المساكين، بينما لا يحركون ساكناً لحل مشكلة واحدة أو تخفيف معاناة واحدة. يتفرجون على الألم وهم يتناولون العشاء، يسمعون الشكاوى وهم يعدون الأرباح، يشاهدون الدموع وهم يخططون للموسم القادم ليكرروا نفس الجريمة.
في كل عام تتعالى الأصوات مطالبة بالتحقيق والمحاسبة، وفي كل عام تذهب هذه المطالبات أدراج الرياح. ولماذا لا تذهب والذين يطالبون بمحاسبتهم هم أنفسهم الذين سيحاسبون؟ كيف يمكن للص أن يحاكم نفسه؟ كيف يمكن للمقصر أن يعاقب تقصيره؟ إنها معادلة مستحيلة، ولذلك تستمر المعاناة عاماً بعد عام، وتتكرر المهزلة موسماً بعد موسم.
لقد طفح الكيل، وامتلأت القلوب غضباً، وباتت المطالبة اليوم واضحة وصريحة: حل هيئة الحج والعمرة السودانية نهائياً، وتسريح جيوش العطالة والفساد التي تقتات من عرق الحجاج ودموع المعتمرين. لا إصلاح مع هؤلاء، لا تطوير مع هؤلاء، لا أمل مع هؤلاء. إنهم سرطان في جسد الخدمة العامة يجب استئصاله جذرياً.
البديل موجود وواضح ومجرب في دول أخرى: مؤسسة رشيقة من موظفين أصحاب ضمير وكفاءة، مهمتها الوحيدة التنسيق والرقابة على الوكالات الخاصة المتخصصة. دع الشركات الخاصة تتنافس على تقديم أفضل الخدمات بأقل الأسعار، وليتنافس المتنافسون في خدمة ضيوف الرحمن، فهذا أولى من احتكار الفشل والفساد.
تخيلوا مؤسسة تضع معايير صارمة لجودة الخدمات، تراقب الأداء باستمرار، تعاقب المقصر فوراً، تكافئ المتميز عدلاً، تنشر التقارير المالية شفافية، تحمي حقوق الحجاج قانوناً. تخيلوا بيئة تنافسية صحية حيث يسعى كل مقدم خدمة لإرضاء الحجاج ليضمن بقاءه في السوق، بدلاً من الوضع الحالي حيث يضمن الفاشل منصبه بغض النظر عن مستوى أدائه.
ألا تكفي الفضائح المصورة التي انتشرت هذا العام؟ ألا تكفي الشكاوى المرفوعة كل موسم؟ ألا تكفي دموع الأمهات والآباء الذين حلموا برحلة مقدسة فتحولت إلى كابوس مريع؟ ألا يكفي أن نرى شيوخاً في السبعين والثمانين ينامون على الأرض ويأكلون طعاماً فاسداً ويعانون من إهمال طبي قد يودي بحياتهم؟
إن الصمت اليوم جريمة، والتغاضي خيانة، والانتظار قتل بطيء لكل حاج قادم. من يملك القرار عليه أن يتحرك فوراً، من يملك التأثير عليه أن يرفع صوته عالياً، من يملك الضمير عليه أن لا ينام الليلة مرتاح البال وهو يعلم أن آلاف الحجاج سيعانون العام القادم نفس المعاناة إن لم نتحرك اليوم.
يا أصحاب القرار، يا من بأيديكم مصائر الناس وأحلامهم، اتقوا الله في هؤلاء المؤمنين البسطاء الذين يأتون إلى بيت الله بقلوب مكسورة وآمال عريضة. لا تجعلوا من أقدس رحلة في حياتهم مصدر ألم وعذاب. لا تحولوا دعاءهم عليكم بدلاً من دعائهم لكم. لا تكونوا سبباً في حرمانهم من لذة العبادة والقرب من الله.
الحل بسيط والطريق واضح، لا يحتاج إلا إلى إرادة صادقة وعزيمة قوية لكسر هذه الحلقة المفرغة من الفساد والفشل. حل الهيئة الفاشلة، تأسيس نظام جديد، فتح باب التنافس الشريف، وضمان حقوق الحجاج. هذا كل ما نطلبه، وهذا أقل ما يستحقه هؤلاء المؤمنون الذين يضعون ثقتهم فيكم ويدفعون أموالهم لكم.
والله لن تهدأ الأصوات ولن تسكت المطالبات حتى ينتهي هذا الظلم ويزول هذا العار عن جبين الوطن. فالحق لا يموت وإن طال الزمان، والظلم لا يدوم وإن قوي الظالمون. واليوم الذي سنرى فيه الحجاج السودانيين يعودون من رحلتهم المقدسة بوجوه مشرقة وقلوب راضية قادم لا محالة، وسيكون ذلك اليوم شاهداً على من وقف مع الحق ومن وقف مع الباطل.

زر الذهاب إلى الأعلى