
بطبيعة الحال صدق المثل القائل بأن الطبع دائما يغلب التطبع .
فقد قلبت مجموعة الارتكاز في قريتنا ظهر المجن فجأة في وجه الاهل واخدت تتجول في شوارع وأزقة القرية راجلة احيانا وعلى الدراجات النارية احيانا أخرى عازمة بكل نوايا النكوص عن اتفاقنا معهم بعدم القيام بذلك ..ولكنهم سدروا في غيهم ذلك القبيح وكأنهم قد احسوا بقرب رحيلهم الحتمي عن البلدة اوحتى إحتمالية ترجلهم عن ظهر الحياة فأخذوا وهم في عجلة من أمرهم يتسورون البيوت و يقتحمون الحيشان بعد تحطيم الاقفال وإجبار بعض الشباب على معاونهم في سحب السيارات والجرارات المشفشفة و التي كان أصحابها قد امنوها في تلك الاماكن التي اما هم نزحوا عنها مؤخرا او كانوا مسافرين قبل أو بعد الحرب خارج البلاد اصلا .
حدث ذلك في أواخر شهر يناير 2025 وبدايات فبراير من هذا العام ..وحينما طلبت منهم اللجنة الشعبية المنوط بها الفصل بينهم وبين المواطنين و الحيلولة دون دخولهم في ثنايا القرية والكف عن ذلك السلوك المشين الذي يعد نقضا صريحا لما درجنا على الوفاء به من التزام مادي ناحيتهم تضحية بالقليل من أجل ألا نفقد الكثير والأعلى ثمنا ..لكنهم تجاهلوا الأمر بل دفعوا بأسباب واهية لتبرير فعلتهم .
فما كان من اللجنة إلا واتخذت قرارا صارما بعدم دفع أية أموال من الآن فصاعدا إذ لا يمكن مطالبة المواطن المقيم أو المغترب أن يدفع لأناس لحسوا الاتفاق السابق بعدم التعدي على الممتلكات و دخول القرية وهم مسلحين لتنفيذ اهوائهم الرخيصة تلك بعد ان كانوا يمثلون دورا مغايرا تماما !ولكنهم رغما عن ذلك التحذير وحجب المعلوم فقد ظلوا يتسكعون في قريتنا والقرى المجاورة ظنا منهم أن وصول الجيش لتحرير الحصاحيصا بعد بلوغه مدني سيأخذ وقتا يمكنهم من الحصول على المزيد من الغنائم فطفقوا يعيثون فسادا ويفجرون تقتيلا و تهجيرا مستهدفين كافة القرى الواقعة على جانبي طريق مدني الخرطوم ويحطمون محطات الكهرباء و ابراجها و يقطعون الأسلاك لاستخدامها في جر المركبات المسروقة ..إلى أن فاجأتهم القوات المسلحة في منطقة قنب الحلاوين مقابل المشرع العابر إلى مصنع سكر الجنيد بعد أن تخطت مرحلة تحرير الحصاحيصا بصورة شبه كاملة.
فما كان منهم ألا ان ولوا الادبار مرعوبين في جنح الليل .
لتتنفس قريتنا وكافة قرى المنطقة الصعداء بعد عذابات نفسية وجسدية جثمت على الصدور شهورا طويلة عجفاء المواسم وكان رمضان الثالث في ظل هذه الحرب قد أطل علينا وقد ابتعدت تلك العناصر عن حمانا إلى غير رجعة.
و استقبلنا في اليوم التالي طلائع القوات المسلحة التي تلقاها الناس بالهتافات والتكبير والزغاريد و قفزات الاطفال فرحا .
وكانت النهاية غير المتوقعة بأن يذهب عنا ذلك الشر دون إحداث المزيد من الخسائر في الأرواح ..وقد غادروا على عجل وأخذوا معهم ما تخيروه من الشاحنات والمركبات القليلة التي سرقوها في الأيام الأخيرة
ولله الحمد على تلك النهاية لماستنا معهم التي كانت صخرة ثقيلة فوق الصدور .
وهم في الحقيقة كانوا بضعة مجرمين لم يكن عصيا علينا أن تفتك بهم في كل المراحل السابقة مواجهة أو غدرا ..لكن حكمة وليس جبنا كما يظن البعض كان رفض ذلك الخيار قائما على فرضية أن القضاء على ذلك العدد القليل لن يكون نهاية المطاف و سيجر على رقعتنا الهشة أمنيا شرورا لا يمكن التنبؤ بوخامة نتائجها ولعل بعض الشواهد من حولنا رغم أنها كانت ملاحم من البطولات التي يجب تحيتها ورفع القبعات لها و الترحم على شهدائها والدعاء بشفاء جرحاها و عودة نازحيها ..ولكن ليس بالضرورة أن تنسحب تلك الأمثلة على منطقتنا لاعتبارات كثيرة ليس من بينها بالطبع حب مداهنة العدو خوفا منه بقدرما كان مرده أن ما يمكن حسمه برصانة اللسان يكون اسهل من الذي تفك عقدته بالاسنان .
وها نحن نعبر هذا المنزلق بخسائر بشرية وان كانت قليلة في عددها ولكنها كبيرة في معناها وممضة في جرحها الغائر
فإننا نتضرع سائلين المولى العلي القدير أن يعم السلام والطمأنينة كل أرجاء الوطن وترفرف رايات عزة شعبه كما ظلت دائما فوق هامات الغمام .
وقبل أن اطوي صفحات هذه التجربة الثرة بكل ما فيها من مررات..ولكني أكاد أجزم انها ايضا كانت تجربة مفيدة ليس من واقع ضررها بالوطن والمواطن ..ولكن من حيث اكتسابي كسائر أبناء جلدتي الاكارم لقوة ألهمنا إياها المولى الكريم بأن نصمد أمام ذلك العدوان مكشوفي الظهر ونتصدى له بالحكمة والتروي و رباطة الجاش و تمديد حبال الصبر على المكاره وشحذ شكيمة الجلد حيال ضنك العيش وفقدان احيانا ما يقيم اود البطون أو يلبي شهوات الأنفس من مطايب النعم التي انعدمت في الموائد ومنها الفواكه وحتى الخضروات واللحوم التي كانت مبذولة في طرقات المدن وجادات القرى وباسعار محتملة إلى حد ما بالنسبة للبعض قبل اندلاع هذه الحرب العبثية بكل معنى الكلمة وكانت الكثير من البيوت خلال شهورها العجاف تنام وتستيقظ على خواء البطون ..بل وكم تهدد الموت أصحاب الأمراض المستدامة نتيجة انعدام الأدوية في مناطق سيطرة المليشيات فشدوا الرحال بما تبقى فيهم من عافية و نحول بائن يتحسسون المخارج بعيون امتص مياهها الغالية داء السكر اللعين و يربطون على الرؤوس درءا لاوجاع صداع ضغط الدم التي كادت أن تمزق غشاوة الأدمغة فيها وتحطم عظام الجباه الساجدة حمدا وشكرا على غيرها من صنوف الأبتلاءات بضرائها وسرائها.
خاتمة لابد. منها ..
هي مشاوير وان كانت قصيرة في مدى خطواتها المحصورة في جغرافيا محددة ولكنها طويلة مجازا بمعايير مداها الزمني الذي كان يخطو مع كل دعوات الامل الذي لم تفقده يوما ولا زلنا عشما في أن يتعظ ساسة وقادة البلاد و لا تستثني أنفسنا نحن المواطنين من اجترار كل فصول هذه الحرب بكل تفاصيلها أخذا بالعبر والدروس سعيا في تعايش ديمغرافي وتماسك جغرافي يعيد لهذا الوطن الجريح عافيته و يجعلنا نتوخى جانب التعقل في حسابات رسم المستقبل ليهنأ أبناء وبنات الأجيال الشابة الحالية أوالتي ستولد غدا فتجد حطام هذه الصراعات قد ابلعته أرضية الزمن ليغدو تسميدا لتربة اصلح تنجب من هم يستحقون حياة أفضل من التي تنكبنا محجاتها الوعرة و تعثرنا في نتوءات اخطائنا التي حاولنا بكل أسف أن نغسل ادرانها احيانا بالدموع واحيانا نلونها بصبغة الدماء القانية .
ونكرر هنا أن نزجي الشكر الجزيل لكل أبناء المنطقة الذين تحملوا عبء المسئولية الجسيمة وهم يصارعون واقعا بشعا استطاعوا بكل شجاعة أن يجتازوه متابطين قياد الأمور إلى بر السلامة لم يكونوا متعاونين لمصلحة خاصة ولا منفعة ضيقة بل كانوا يعملون بتجرد عن كل غاية إلا مصلحة اهلهم و صالح مناطقهم .
وهذا لا ينفي وجود بعض من اطربهم ضجيج الفوضى وظنوا انها ستكون الحاكمة إلى ما لا نهاية فانزلقوا خلف المكاسب الذاتية وهم قلة ليس من المنطق أن نقيس بهم الأمور على إطلاقها ..ففي كل مجتمع يوجد من يشذ عن القاعدة فيصبح استثناءا ..نرجو أن يسامحهم الله و يهديهم إلى سواء السبيل من كان منهم مقهورا او مجبرا أو أغواه شيطان النفس.. وان يستفيدوا كغيرهم من هذه التجربة ويعودوا إلى صفوف اهلهم اكثر صفاء ..فلا أحد يضمر لهم سوءا و طالما أن الله هو الغفور الرحيم ..فلماذا يتأبى البشر عن الصفح والغفران متى ما كان القانون منصفا البريء والعدالة هي سيف الحق البتار لرد المظالم.. والكل أمامهما كما اسنان المشط او كما يفترض ذلك .
فكلنا خطاؤون وخير الخطائين التوابون.
والله ولي التوفيق .
انتهت السلسلة .