رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

من دهاليز المحاكم السودانية – قصة كرتونة المخدرات

بقلم : المستشار كمال محمد الأمين عبد السلام

في عام 2005، كان الزمان يحمل في طياته رائحة التغيير.. رائحة الفترة الانتقالية التي تشبه رائحة المطر الأول بعد قحط طويل. وكنت أنا، المحامي الشاب، قد وجدت نفسي فجأة في دوامة السياسة والقانون، مستشاراً قانونياً لرئيس الكتلة البرلمانية لنواب الحركة الشعبية.

الدكتور اليقو مناوا.. اسم كان يتردد في أروقة البرلمان مثل نغمة موسيقية عذبة. والحركة الشعبية آنذاك كانت أشبه بنهر جارف يحمل معه أحلام الجنوب وآمال المستقبل.

كانت الأيام تمر سريعة كأوراق التقويم في فيلم قديم.. 2005، 2006، 2007.. سنوات خصبة حقاً، تعرفت خلالها على شخصيات جنوبية تحمل في عيونها بريق الذكاء وفي قلوبها صدق النوايا. وكان أستاذي الراحل غازي سليمان – رحمة الله عليه – هو الملح الذي يضفي النكهة على تلك الفترة، كالحكيم الذي يعرف كيف يجعل من التجربة المرة حكمة حلوة.
ولكن.. هناك دائماً “ولكن” في كل حكاية تستحق أن تُروى.
كانت هناك قضية مخدرات تشغل الرأي العام كما تشغل نار صغيرة كومة قش جافة. صحيفة الدار وزعت توزيعاً غير عادي.. توزيعاً يشبه توزيع الماء في الصحراء، يتسابق الناس عليه كأنه آخر نبأ في الدنيا.
وفي المساء، خلف عمارة الجوهرة – وما أجمل أن تكون الحكايات خلف عمارة تحمل اسم “الجوهرة”! – كنا نلتقي، أنا ومجموعة من الزملاء والأصدقاء الجنوبيين. كانت جلسات سمر تشبه جلسات الحكماء في الزمن القديم، حيث تختلط الضحكات بالهموم، والنكات بالحكايات الجادة.
وفجأة، طرح علي أحدهم سؤالاً كان بمثابة الشرارة التي أشعلت النار:

“لماذا لا تدافع عن هذا الشاب المتهم؟”

الشاب المعني كان في السنة الثالثة قانون.. وهل هناك مأساة أكبر من أن يجد طالب القانون نفسه في قفص الاتهام؟ كأن القدر يلعب معه لعبة قاسية، يقول له: “تعلمت القانون نظرياً، فلتختبره عملياً من الجانب الآخر!”

والده نائب برلماني.. وهنا تتعقد الحكاية أكثر. فالسياسة والقانون عندما يختلطان، ينتجان خليطاً متفجراً كالنيتروجليسرين.

الولد ذهب إلى مدينة واو لقضاء عطلة العيد.. واو، تلك المدينة التي تحمل اسماً يشبه صوت الدهشة. وعند عودته، حدث ما لم يكن في الحسبان.

في المطار، وجد شخصاً يطلب منه حملة كرتونة.. مجرد كرتونة! شيء بسيط وعادي كأكياس الشاي أو علب البسكويت. لكن في عالم القانون، لا يوجد شيء بسيط أبداً. كل شيء محتمل، وكل احتمال قد يكون بداية مأساة.

حملها بحسن نية.. وما أقسى أن يعاقب الإنسان على حسن نيته! كأن الطيبة أصبحت جريمة في زمن اختلطت فيه الأمور

زر الذهاب إلى الأعلى