رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

مضيق هرمز قنبلة إيران الاقتصادية: كيف يمكن لـ 33 كيلومتراً أن تشعل حرباً عالمية وترفع سعر النفط إلى 350 دولاراً؟”

“بقلم : المستشار معاوية أبوالريش
في قلب التوترات الإقليميةالمتصاعدة، يبرز مضيق هرمز كأهم نقطة اختناق جيوسياسية قد تحدد مسار الاقتصاد العالمي.
وسط تصاعد غير مسبوق في التوتر بين إيران وإسرائيل، أعلن عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني إسماعيل كوثري أن بلاده تدرس “بجدية” خيار إغلاق مضيق هرمز الاستراتيجي، في خطوة من شأنها أن تضع الاقتصاد العالمي أمام تحديات جسيمة لم يشهدها منذ عقود. هذا التهديد، الذي جاء رداً على الضربات الإسرائيلية للمنشآت النووية والعسكرية الإيرانية فجر الجمعة الماضي، يعيد إلى الواجهة أخطر ورقة ضغط في يد طهران.
يُعد مضيق هرمز أهم نقطة عبور للنفط في العالم، حيث يمر عبره يوميًا أكثر من 21 مليون برميل من النفط الخام، ما يمثل خُمس صادرات النفط العالمية وثلث الاستهلاك النفطي العالمي. هذا الممر البحري الضيق، الذي لا يتجاوز عرضه 33 كيلومتراً عند أضيق نقطة ولا يزيد عرض ممريّ الدخول والخروج فيه عن 3 كيلومترات لكل اتجاه، يربط الخليج العربي بخليج عُمان والمحيط الهندي، وتحده من الشمال والشرق إيران، ومن الجنوب سلطنة عمان.
ما يجعل هذا المضيق بالغ الأهمية هو أن دولاً بأكملها تعتمد عليه بشكل كامل لتصدير ثرواتها النفطية، فالعراق والكويت وقطر والبحرين ليس لديها أي منافذ بديلة، بينما تستخدمه السعودية والإمارات كمسار رئيسي رغم امتلاكهما طرقاً بديلة محدودة القدرة. وليس الأمر مقتصراً على النفط فحسب، إذ يمر عبر المضيق أيضاً حوالي 80 مليون طن متري سنوياً من الغاز الطبيعي المسال، أي 20% من التدفقات العالمية، خاصة من قطر التي تُعد أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم.
التهديد الإيراني الحالي ليس مجرد تصريح سياسي فارغ، فإيران تمتلك القدرة الفعلية على تنفيذ هذا التهديد. يؤكد الباحث السياسي الإيراني عرفان بجوهنده أن “إيران تملك القدرةالكاملة على إغلاق مضيق هرمز سواء عبر عمليات بعيدة المدى أو من خلال تدخل مباشر إذا ما اقتضت الضرورة”. فالسواحل الإيرانية تطل على المضيق لأكثر من 100 ميل بحري، وتمتلك إيران ترسانة ضخمة من الصواريخ المضادة للسفن والطائرات المسيرة والقوارب السريعة والألغام البحرية والأنظمة البحرية والجوية المصممة خصيصاً لهذا الغرض.
لكن السؤال الأهم هو: ماذا سيحدث فعلياً إذا أقدمت إيران على هذه الخطوة الكارثية؟ الإجابة تكمن في التوقعات المرعبة للخبراءالاقتصاديين. يشير بيارن شيلدروب، كبير محللي السلع في بنك SEB السويدي، إلى أنه “في حالة إغلاق مضيق هرمز لشهر أو أكثر، فإن خام برنت قد يقفز إلى 350 دولاراً للبرميل، وسينهار الاقتصاد العالمي، ثم ستنخفض أسعار النفط مرة أخرى إلى ما دون 200 دولار بمرور الوقت”. هذا الرقم الصادم يعني أن تأثير إغلاق المضيق على أسعار النفط “سيكون أكبر بثلاث مرات من صدمات أسعار النفط في السبعينيات في أعقاب الثورة الإيرانية والحظر النفطي العربي”.
التداعيات لن تقتصر على أسعار النفط فحسب، بل ستمتد لتشمل كافة جوانب الاقتصاد العالمي. حذر وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين في اتصالاته الدبلوماسية الطارئة من أن إغلاق مضيق هرمز قد يؤدي إلى فقدان السوق العالمية نحو خمسة ملايين برميل يومياً من النفط الخليجي والعراقي، مما يترتب عليه ارتفاع حاد في أسعار النفط قد يصل إلى 200 أو 300 دولار للبرميل، الأمر الذي من شأنه أن يُفاقم أزمة التضخم العالمية ويؤثر سلباً في اقتصادات الدول المنتجة والمستوردة على حد سواء.
بالنسبة لأوروبا تحديداً، فإن القارة العجوز ستواجه كارثة حقيقية، حيث تستورد كميات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي المسال من دول الخليج عبر هذا المضيق. وإذا قامت إيران بمنع ذلك، فإن أسعار الطاقة ستحلق إلى مستويات فلكية، وقد تواجه أوروبا نقصاً حاداً في الطاقة، خاصة في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على النفط والغاز من الشرق الأوسط، مما قد يؤدي إلى أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة.
الصين أيضاً، رغم كونها أكبر شريك تجاري لإيران وأكبر مستهلك للنفط الإيراني، لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا السيناريو. تؤكد خبيرة الطاقة إلين والد أن “الصين لا تريد أن يتم تعطيل تدفق النفط من الخليج بأي شكل، كما أنها لا تريد أن ترتفع أسعار النفط، لذا فإنها ستستخدم كامل قوتها الاقتصادية ضد إيران” في حالة إغلاق المضيق. هذا يعني أن إيران ستواجه ضغوطاً هائلة حتى من أقرب حلفائها.
في المقابل، لن تقف الولايات المتحدة وحلفاؤها مكتوفي الأيدي أمام هذا التهديد الوجودي للاقتصاد العالمي. تتمركز القوات البحرية الأمريكية الخامسة في البحرين لحماية حرية الملاحة في المضيق، وقد أرسلت واشنطن رسائل ردع قوية عبر عبور الجنرال الأمريكي مايكل “إريك” كوريلا، المشرف على الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط، مضيق هرمز على متن المدمرة “يو إس إس توماس هودنر” بعد تصاعد المضايقات الإيرانية للسفن التجارية. كما أعلنت القوات البحرية متعددة الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة عن إنشاء قوة مهام جديدة هدفها “تدريب البحريات الشريكة وتحسين القدرات التشغيلية لتعزيز الأمن البحري في الشرق الأوسط”.
لكن هل تستطيع إيران فعلياً إغلاق المضيق بالكامل؟ الخبراء منقسمون حول هذه النقطة. يرى المحلل أنس الحجي أنه “دعونا نكون واقعيين بشأن مضيق هرمز، فأولاً معظم المضيق يقع في عُمان وليس في إيران، وثانياً هو واسع بما يكفي بحيث لا تستطيع إيران إغلاقه بالكامل”. ويضيف أن السفن يمكنها استخدام طرق بديلة عبر الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان. ومع ذلك، فإن حتى الهجمات المحدودة أو التهديد بها قد يكون كافياً لتعطيل حركة النقل، حيث قد تقرر شركات الشحن وقباطنة السفن أن مخاطر فقدان الأموال أو الأرواح أكبر من الأرباح المحتملة.
التاريخ يعطينا دروساً مهمة في هذا السياق. خلال الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات، شهدت المنطقة ما يُعرف بـ”حرب الناقلات”، حيث تم مهاجمة 411 سفينة على مدى ثماني سنوات، منها 239 ناقلة نفط. ومع ذلك، رغم التهديدات الإيرانية المتكررة بإغلاق مضيق هرمز خلال تلك الفترة، لم تنفذ إيران هذا التهديد أبداً. هذا يشير إلى أن التهديد قد يكون أكثر فعالية من التنفيذ الفعلي، خاصة وأن إيران نفسها ستكون من أكبر المتضررين.
إيران تحصل على 65% من إيرادات الحكومة و8% من ناتجها المحلي الإجمالي من صادرات النفط. إغلاق المضيق يعني قطع هذا المصدر الحيوي للدخل، مما سيضطر الحكومة الإيرانية إلى خفض الدعم على الوقود والمواد الغذائية الأساسية التي تدعم الأسعار المنخفضة لسكان إيران البالغ عددهم 91 مليون نسمة. مع وجود نسبة كبيرة من السكان غير راضية بالفعل عن الحكومة، فإن زيادة الأسعار قد تولد اضطرابات مدنية على نطاق واسع يهدد مستقبل الحكام الإيرانيين والجهاز الأمني للحرس الثوري الذي يحافظ على بقائهم في السلطة.
رغم وجود بعض البدائل النظرية، إلا أنها محدودة جداً. تقدر إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن حوالي 3.5 مليون برميل يومياً من القدرة غير المستخدمة من الأنابيب يمكن أن تكون متاحة لتجاوز مضيق هرمز، لكن هذا لا يغطي سوى جزء ضئيل من التدفق الإجمالي البالغ 21 مليون برميل يومياً. فقط المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة لديهما أنابيب تشغيلية يمكنها تجاوز المضيق، وحتى هذه الأنابيب تحتاج إلى صيانة وترقيات وقد تكون مغلقة لأسباب سياسية أو اقتصادية أو جيوسياسية.
يرى فيفيك دهار، مدير أبحاث السلع المعدنية والطاقة في بنك الكومنولث الأسترالي، أن “أي حصار لمضيق هرمز سيكون خياراً أخيراً لإيران، ومن المحتمل أن يكون مشروطاً بمواجهة عسكرية مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران”. هذا يعني أن إيران ستلجأ إلى هذا الخيار فقط إذا شعرت أن وجودها مهدد بشكل مباشر أو إذا فقدت القدرة على الحفاظ على توازن القوى في المنطقة.
التأثير الفوري لمجرد التهديد بإغلاق المضيق ظهر جلياً في الأيام الأخيرة، حيث ارتفعت أسعار النفط بنسبة 7% في يوم واحد، وهو أكبر ارتفاع منذ بداية الحرب في أوكرانيا عام 2022، بسبب مخاوف المستثمرين من اتساع رقعة المواجهة بين إيران وإسرائيل. هذا يُظهر مدى حساسية الأسواق العالمية لأي تهديد لهذا الممر الحيوي.
في النهاية، إن مضيق هرمز يمثل أكثر من مجرد ممر مائي ضيق بعرض 33 كيلومتراً ، إنه شريان الحياة للاقتصاد العالمي ونقطة توازن جيوسياسية بالغة الحساسية. أي محاولة لإغلاقه ستكون بمثابة إعلان حرب اقتصادية على العالم، بعواقب كارثية قد تتجاوز حدود المنطقة لتطال كل بيت في العالم عبر ارتفاع جنوني في أسعار الطاقة والسلع الأساسية. التهديد الإيراني الحالي، رغم كونه قد يبدو مجرد ورقة ضغط، يحمل في طياته إمكانية تغيير وجه الاقتصاد العالمي إذا ما تم تنفيذه. في عالم مترابط اقتصادياً أكثر من أي وقت مضى، تبقى الدبلوماسية والحلول السلمية هي الطريق الوحيد المعقول لتجنب كارثة قد تعيد تشكيل النظام الاقتصادي العالمي بطريقة لا يمكن التنبؤ بعواقبها المدمرة.

زر الذهاب إلى الأعلى