الثروة الحيوانية كأهم قطاع اقتصادي سوداني بين لعنة الجبايات وتآكل الدولة واللعنات المنصبة على التجار والبائعين فقط…!!

✍🏻المستشار/مهيد شبارقة
(القطيع الذي يسير بلا راع..!!)
في بلد تعدّ الثروة الحيوانية فيه من الأعمدة الأساسية للاقتصاد لايبدو أن لهذا القطاع من يرعاه حقا إذ باتت الثروة الحيوانية في السودان تمضي نحو مصير قاتم بين تفكك الدولة وفوضى السوق وغياب الحد الأدنى من الرعاية والخدمات وارتفاع كلفة الإنتاج وانعدام الأمن في مناطق التربية وسياسات رسمية لاترى في هذا القطاع إلا مصدرا لمزيد من الجباية…!!!
ومع أن السودان يملك أكثر من 80 مليون رأس ماشية وفق تقديرات منظمة الأغذية والزراعة (FAO) إلا أن هذه الوفرة العددية لم تترجم قط لنهضة اقتصادية أو اكتفاء غذائي أوفرص تصنيع محلي بل تحولت إلى عبء على المربي ورافعة فشل للدولة وفرصة تهريب عبر الحدود…
القراء الاعذاء هذه محاولة متواضعة لتحليل جذور الأزمة من قلب الميدان وبأصوات الرعاة والمنتجين أنفسهم احاول هنا لا التباهي بثروة منقوصة بل الاعتراف بفشل مؤسسي مزدوج
من الدولة التي لا تخطط ومن نظام اقتصادي لا يكافئ المنتج…!!
اولا: القطيع في أرقام حين تكذب الحقيقة طموحات الدولة: حيث يملك السودان نظريا واحدة من أكبر الثروات الحيوانية في إفريقيا:
تقدر ب30 مليون رأس من الضأن
و25 مليون من الماعز
و20 مليون من الأبقار
و4 ملايين من الإبل لكن عمليا فإن هذه الأرقام لا تعكس حجم الإنتاج الحقيقي ولا القدرة التصديرية الفعلية وذلك لعدة اسباب الاوهي:
١/ضعف خدمات الصحة الحيوانية.
٢/فقدان القطيع بسبب الأمراض الموسمية.
٣/تهريب متزايد عبر الحدود خاصة إلى إثيوبيا وتشاد وليبيا ومصر.
٤/بيئة طاردة للإنتاج نتيجة الجبايات المتعددة.
٥/تراجع الصادرات بسبب الحروب وانعدام الرعاية الصحية.
فوفق تقرير للبنك الدولي (2023) فإن السودان لا يصدر سوى ما نسبته 10-15% فقط من قدراته الحقيقية من الماشية وغالباً ما يتم تصديرها حية للاسف في ظل غياب انشاء مسالخ حديثة وفرض معايير جودة عالمية…!!!
بل أكثر من ذلك فإن معظم العائد من التصدير لا يعود للمنتج بنفع بل يتسرب إلى الوسطاء والشركات ذات الامتيازات في غياب دعم مباشر للرعاة أو سياسات عادلة للسوق ويقول احد المربيبين /من شمال كردفان:
(نحن نربي ونمشي في الصحراء ونواجه النهب والعطش وفي النهاية الحيوان لما يوصل الميناء
بتخصم عليه ١٧ في المية رسوم من المحلية لحدي الحجر البيطري وفي الاخر بموت اهمال لانو مافي دواء ولاحتى زريبة…!!!)
ثانيا: صحة الحيوان دولة بلا لقاحات هي دولة فاشلة..:
فصحة الحيوان في السودان اليوم أقرب إلى الفراغ المؤسسي فبينما تعتمد الدولة على القطيع كرافعة تصديرية فإنها لا توفّر الحد الأدنى من الوقاية الطبية
فلا توجد حملات تطعيم قومية منتظمةولامعامل ال
بيطرية إما مغلقة أو تعمل بأقل من طاقتها فهل يعقل مناطق بأكملها تفتقر لأي وجود بيطري (خاصة في دارفور والنيل الأزرق وولايات الوسط..!!!).
ففي عام 2021 أدت موجة من الحمى القلاعية في شرق السودان لنفوق آلاف من الضأن والبقر وتراجع صادرات الثروة الحيوانية بنسبة 40% خلال النصف الثاني من العام بحسب تقرير وزارة الثروة الحيوانية نفسه…!!!
ثالثا: سوق دولة منهار بلا اي رقابة أدوية مغشوشة وفوضى سوق اللقاحات:
قد أدى غياب الرقابة إلى تفشي الأدوية المغشوشة وفتح السوق أمام مستوردين بلا تأهيل أو ضوابط فيقول طبيب بيطري فضل عدم ذكر اسمه:
(ان الدواء البيطري المغشوش بخش البلد اسهل من الموبايلات لافحص لامواصفات ولافي جهة مسؤولة توقف ذلك كل القصة ادفع وادخل ودمر..)
رابعا: كارثة العلف والجوع في زمن القطيع:
تعد مشكلة العلف من أكثر الأزمات إلحاحا في قطاع الثروة الحيوانيةوقد تحولت إلى أزمة هيكلية تهدد وجود القطاع بأسره فمع تدهور المراعي الطبيعية وارتفاع أسعار الأعلاف التجاريةبات الكثير من المربين غير قادرين على إطعام مواشيهم..!!
وفي السوق بلغ سعر جوال الردة في عام 2024 نحو 18,000 جنيه سوداني بينما وصل جوال التبن إلى 12,000 جنيه في حين أن سعر الخروف الواحد قد لا يتجاوز 20,000 جنيه في بعض المناطق اذا ابعدنا الجبايات أي أن قيمة العلف تساوي قيمة الحيوان..!!!!
رابعا: شهادات من القضارف:
يقول مربي من القضارف:
(زمان كنا بنلقي المرعى في البطانة بالمجان الان لافي مرعى ولافي تبن ولافي موية
العلف اصبح أغلى من اللحم..!!)
ويرى خبراء أن الدولة لم ولن تواكب التحولات المناخية والجغرافية بإستراتيجية لتوسيع الإنتاج العلفي أو تخزينه بشكل موسمي كما لا توجد حوافز للاستثمار في زراعة الأعلاف…!!
خامسا: انعدام الأمن فالرعاة في مرمى نيران النهب..!!:
المعلوم ان في العديد من مناطق السودان أصبح الرعاة أهدافاً مباشرة لعصابات النهب المسلح ووقوداً لنزاعات قبلية متكررة في ظل غياب تام للدولة وأجهزتها الأمنية
ففي دارفور وجنوب كردفان وبعض مناطق الوسط أصبح التنقل بالقطيع محفوفاً بكثير من المخاطر حيث اصبح النهب المسلح في الطرق والمسارات امر طبيعي ففي ظل انعدام الأمن اصبح الابتزاز من قبل حركات مسلحة أو جماعات قبلية اوقطاع طرق او ارتزاقين باسم القطعان والزكاة امر طبيعي لايدعوا للدهشة…!!ج
سادسا: انهيار سلطة الدولة المتمثلة في غياب الردع والعقاب:
في إحدى الحوادث المعروفة في شمال دارفور نهبت أكثر من 800 رأس من الضأن وقتل 4 رعاة ولم تتفتح حتى بلاغات في الحادثة خوفا من التهديد والوعيد…!!
ففي شهادة مربي من جبل مرة يقول:
(مافي طريق نمر عبرو بدون سلاح والدولة مابتحمينا ومافي زول بسال مننا والقطيع عبارة عن غنيمة)
فالامن لم يعد مطلباً سياسياً فحسب بل ضرورة وجودية للإنتاج الحيواني فبدون استقرار لا يمكن الحديث عن ترحال موسمي أو حركة قطعان أو تجارة آمنة.
سابعا: سلطة الدولة كجابي لا منتج بل شريك في الدمار:
يشهد كثير من المربين ان الدولة لم تعد تقدم أي خدمة ملموسة للقطاع بل تقتصر علاقتها بالمربين فقط على الجبايات اذ تفرض على المنتجين رسوم على كل مراحل العملية:
١/رسوم دخول الأسواق.
٢/رسوم صحية
٣/رسوم تنقل بين الولايات.
٤/رسوم بيئية وتنموية ومجتمعية غالباً بلا مقابل.
ثامنا: جبايات بورتسودان:
وفق دراسة لمنتدى الشفافية في 2023 فإن الخروف الواحد يدفع ما لا يقل عن 25 نوعاً من الرسوم قبل أن يسمح له بدخول الحجر الصحي في سواكن ومع كل ذلك فإن الخدمات في الميناء غير مؤهلة فولا يوجد تبريد كافٍ ولا توجد اي خدمات بيطرية حقيقية بل تصدر الماشية في ظروف بدائية وترفض أحياناً كثيرة من قبل الدول المستوردة (كما حدث في احد الدول الخليجية أكثر من مرة) بسبب الأمراض أو الوزن أو نوعية العلف.
تاسعا: مربي الماشي مكوّن اجتماعي يباد علنا بالصمت والظلم:
فالرعاة والمربون ليسوا فقط منتجين للثروة الحيوانية بل هم مكون اجتماعي اقتصادي أصيل لكنهم يُعاملون اليوم كفئة مهمشة بلا اي صوت سياسي ولا حماية قانونية ولا تمثيل مؤسسي ولا توجد اتحادات مستقلة فاعلة تمثل مصالحهم وغالباً ما يجري تمثيلهم في اللجان الحكومية عبر شخصيات غير منتجةأو محسوبة على مراكز النفوذ تبحث فقط عن حماية مصالحها عبرهم..!!!
فقول أحد مربي الضأن في الجزيرة:
(نحن ماناس محاكم وعرائض ولامكاتب لكن بدوننا البلد دي ماعندها لحمة ولا لبن ورغم ذلك ماعندنا فانون يحمي ماشيتنا ويحمي حقوقنا ولاحتى صوت يوصل وجعنا للمسؤلولين والله
عاشرا: الطريق المسدود هل من مخرج..؟
رغم كل ما سبق لا تزال هناك فرصة حقيقية لإنقاذ ما تبقى من هذا القطاع الهام إذا توفرت الإرادة السياسية وتمت إعادة رسم العلاقة بين الدولة والمواطن المنتج
وهاهي بعض المقترحات العملية علها تجد اذنا صاغية:
١/إنشاء صندوق قومي لدعم الثروة الحيوانية يُموّل من رسوم التصدير ويوجه لدعم الخدمات البيطرية والأعلاف.
٢/ إلغاء الجبايات العشوائية ووضع سياسة موحدة ومحفزة للإنتاج الحيواني.
٣/بناء مراكز بيطرية متخصصة في مناطق الإنتاج الرئيسيةمزودة بالمختبرات الحديثة.
٤/فتح باب التمثيل الحقيقي للمربين عبر اتحادات منتخبة وإشراكهم في صنع القرار.
٥/تشجيع الاستثمار في الصناعات التحويلية (الألبان اللحوم الجلود) بدلاً من الاكتفاء بالتصدير كخام.
٦/فرض هيبة الدولة في مسارات الترحال والمراعي وتوفير الأمن للرعاة ضد النهب والابتزاز.
خاتمة:
من الوفرة إلى الهاوية دولة تأكل قطيعها..:
للأسف الشديد ما يحدث اليوم في قطاع الثروة الحيوانية ليس مجرد إخفاق إداري بل هو انهيار لمنظومة إنتاج كاملة فقطيع ينهك بالجوع والمرض ومربون يطاردهم الفقر والنهب وسلطةٌ لا تعرف من “الثروة” سوى مزيد من الجباية إنه قطيع بلا راعٍ ودولة بلا رؤية لكن رغم ذلك الاعتراف بالخطأ هو أول خطوات الإصلاح وإن كان من أمل في الخروج من هذا النفق فإنه يبدأ من إعادة تعريف دور الدولة:
من مجرد جابي ضرائب إلى شريك في الإنتاج ومن متفرج على الانهيار إلى ضامن للسيادة الغذائية والاقتصادية فالثروة الحيوانية يمكن أن تكون منقذ السودان لا عبئه… فقط إذا أدركت الدولة أن القطيع ليس صندوقاً مالياً متحركاً..
ولك الله يابلدي…!!!