
من نافلة القول إن الإنسان السوداني متساوٍ مع الإنسان المصري الذي يشاركه الجوار، واللغة العربية، والإسلام، والمسيحية.
بمثلما لدينا من أناس أشرار، وعنصريين، ومتطرفين، ومجرمين، فإن مصر تملك أمثالهم. فكل المجتمعات الإنسانية مجبولة على أعمال الخير والشر ضمن محيطها المجتمعي. وإذا أردنا تكييف هذه العلاقة التاريخية التي عمقها الجوار الحتمي – وعززه رباط نهر النيل – يجب علينا أن نكون واضحين. فهل مآخذنا على الإنسان المصري وثقافته التي اكتسبها تجاهنا، أم أن مآخذنا على سياسة الدولة المصرية؟. هذا التكييف ضروري حتى لا نقع في الجهل بفهم طبيعة العلاقات بين الدول، والمجاورة على وجه الخصوص.
عشت في مصر زهاء العامين، وكانت من أخصب فترات حياتي. صاحبت فيها مصريين من أدنى السلم الطبقي، إلى أواسطه، فأعلاه. ومثلما جلست مع أحد البوابين الأقباط، وآخيته، وكان يزورني وأزوره، فقد دعاني المفكر الراحل محمود أمين العالم إلى منزله، وأجريته معه حواراً، وأكرمني بشكل فياض مع أسرته. ولاحقًا كنت أزوره في مكتبه بمجلة “قضايا فكرية”، ويكرمني بالحديث معه لساعات. وكل ما أنوي المغادرة ذهب إلى مخزن المجلة، ومنحني كيساً يحوي أعداداً قديمة من مجلته الرائعة.
على المستوى الآخر تُعد المصاهرات بين السودانيين والمصريين من الأكثر رواجاً عبر التاريخ المشترك للبلدين. فكثير من السودانيين تعود أصولهم إلى مصر، والعكس هو الصحيح، وإن كان بقدر أقل. ولكن هذا الرابط الاجتماعي متوغل في التاريخ. وما يزال إلى يوم الناس هذا يتقوى بظروف الهجرات السودانية الأخيرة لمصر ما قبل وبعد الحرب. ونذكر أن الرئيس محمد نجيب وُلد في السودان، وكانت أمه من مدينة أمدرمان. أما الرئيس المصري محمد أنور السادات فتعود جذور أمه أم البرين إلى كردفان. هذا التداخل الدمي المصري السوداني ملحوظ من قمة الطبقات الاجتماعية السودانومصرية إلى أدناها.
اعتقد أن معظم السودانيين الذين عاشوا، أو درسوا، أو استثمروا في مصر ولو لمدى شهر يحملون مشاعر طيبة تجاه المصريين. كما أن الذين لم يزوروها يقدرون أن مصر بثقلها السياسي التاريخي أثرت فينا ثقافيا بآدابها، وسينماها، ومسرحها، ومسلسلاتها، ونقادها، وغنائها. بل إنها أثرت على كل تخوم الدول المنضوية تحت منظمة الدول العربية بأقدار متفاوتة. ولكن المآخذ السياسية التي تحملها النخبة السياسية السودانية تجاه الدولة المصرية تاريخياً تمثل معضلة كبيرة تنخلط فيها المواقف مع الشعب المصري ودولته في لحظات التوتر السياسي بين البلدين، أو قل تضطرم في لحظات المنافسة الكروية الحامية التي تجمع المنتخب المصري والسوداني.
تعد فترة الحركة الإسلامية من أكثر الفترات التي شهدت تطوراً خطيراً في هذه العلاقة التاريخية ما دعا مصر لاحتضان المعارضة السودانية للعمل بشكل علني لتقويض نظام الترابي الذي صنعه ليحقق استقلالاً ثانياً من المصريين، وهو في المرة الأولى خرج عن جماعة الإخوان المسلمين رسميا حتى لا يأتمر بأمر الإسلام السياسي في نسخته المصرية.
ولئن حكمت علاقتنا بالجوار مع تشاد، وإثيوبيا، واريتريا، تدخلات في شؤونها، وتغييراً، لأنظمتها، فعلينا توقع أن مصالح الدولة الإقليمية، والدولية، تحذونا حافراً عن حافر.
القادة السياسيون السودانيون – عسكريون ومدنيون – الذين حكمونا منذ الاستقلال ملامون على تفريطهم في خلق معادلة متزنة مع الحكومات المصرية المتعاقبة تعود بالخير إلى شعب بلادنا. فإذا نحن قبلنا بهؤلاء القادة الحكام، وهم يستخدمون هذه العلاقة لتحقيق نفوذهم السياسي أكثر من تحقيق مصلحة الشعب السوداني فإننا لا نلومن إلا أنفسنا.
لدى السودانيين والمصريين آلاف الأسباب لتحويل علاقة الجوار بينهما إلى مجال لخدمة الشعبين. وهناك عوامل متوفرة كثيرة لأن تكون هذه العلاقة نوعية، ومثمرة، إذا وجدنا قادة سياسيين في سدة السلطة يقدمون مصلحة بلادنا العليا. ولذلك علينا أن نتحمل مسؤوليتنا، والاعتراف بتفريط هؤلاء القادة في حفظ حقوق السودان، ثم من بعد ذلك يجوز أن نلوم الأنظمة المصرية أنها لم تمارس فضيلة التطهر السياسي إزاء التعامل مع بلادنا.