رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

“الشوق والريد”: سيمفونية الوجد السوداني بين براعة قدور وعبقرية الكاشف”

بقلم : المستشار معاوية أبوالريش

تقف أغنية “الشوق والريد” كشاهد على عبقرية الإبداع السوداني، حيث تتلاقى كلمات الشاعر السر قدور الآسرة مع لحن الراحل المقيم إبراهيم الكاشف الخالد، لتخلق تحفة فنية تتجدد مع كل استماع. وقد أعاد الفنان المبدع عصام محمد نور إحياء هذه الجوهرة بأداء استثنائي يضعه في مقدمة فناني الجيل الجديد القادرين على حمل أمانة التراث الغنائي السوداني.
جماليات البناء الشعري: رحلة في عوالم الوجدان
المطلع: بوابة الأحاسيس
يفتتح الشاعر السر قدور قصيدته بثلاثية عاطفية قوية:
“الشوق والريد والحب البان”
هنا تتجلى براعة الشاعر في اختيار مفردات تحمل عمق التجربة الإنسانية. فـ”الشوق” يمثل حالة الترقب والانتظار، و”الريد” يجسد الرغبة الملحة، بينما “الحب البان” يصور الحب الواضح الجلي. هذه الثلاثية تخلق منذ البداية مناخاً عاطفياً مشحوناً بالأحاسيس المتدفقة.
الصورة الشعرية الأولى: لمسة الإيد
“في لمسة إيد وأغاني نقولا نقول ونعيد”
يرسم الشاعر هنا لوحة حسية رائعة، حيث تصبح “لمسة الإيد” رمزاً للتواصل الروحي، والأغاني التي “نقولا نقول ونعيد” تشير إلى الذكريات المتكررة التي تحمل نفس الحلاوة في كل مرة. التكرار في “نقول ونعيد” يعكس طبيعة الذاكرة العاطفية التي تستعيد اللحظات الجميلة مراراً وتكراراً.
استعارة الطفولة والتجدد
“والدنيا زهور في عينينا تصبح كل يوم زي طفل وليد”
هنا يبلغ الشاعر ذروة إبداعه في رسم صورة شعرية مركبة. فالدنيا التي تصبح “زهور في عينينا” تعكس قدرة الحب على تجميل الواقع وتلوينه بألوان الأمل. والتشبيه بـ”الطفل الوليد” يضفي على الحب معنى التجدد اليومي والبراءة والنقاء.
المقطع الثاني: جراح الفراق وأمل اللقاء
تصوير ألم الفراق
“كل الأشواق وآهه بتجرح قلب المشتاق”
يصور الشاعر هنا الألم النفسي بصورة جسدية، فالآهات تصبح جراحاً تنزف في قلب المشتاق. هذا التجسيد للألم النفسي يجعل المتلقي يشعر بثقل المعاناة وعمق الوجع.
الرسالة والأمل
“ليك ياهاجر ليك رسالة لو روحك يوم تنسي دلالا”
يتحول النص هنا إلى خطاب مباشر مع المحبوب الغائب، والشاعر يستخدم لفظة “هاجر” التي تحمل دلالات الرحيل والانقطاع. كلمة “دلالا” تضفي نكهة شعبية أصيلة تعكس عمق الجذور الثقافية للنص.
المقطع الثالث: فلسفة الحب والجمال
الحب كقوة طيران
“نخلي الحب يسرح بينا يبقي جناحين ويطير بينا”
هنا يرتقي النص إلى مستوى فلسفي عميق، حيث يصبح الحب قوة محررة ومحلقة. استعارة “الجناحين” تعطي الحب بعداً روحانياً يتجاوز القيود المادية، والفعل “يسرح” يوحي بالحرية والانطلاق.
لغة العيون
“نسكت وتتكلم عينينا”
هذا البيت يحمل عمقاً شاعرياً استثنائياً، حيث يصور التواصل الروحي الذي يتجاوز الكلمات. العيون هنا تصبح لساناً ناطقاً بلغة الحب الصامتة.
عبقرية إبراهيم الكاشف اللحنية
لحن الراحل المقيم إبراهيم الكاشف لهذه القصيدة يمثل تحفة من تحف الموسيقى السودانية. تمكن الكاشف من خلق لحن يتماهى تماماً مع روح النص، حيث تصاعد الألحان وانحداراتها تعكس تدفق المشاعر وتقلباتها.
اللحن يبدأ بمقدمة موسيقية تمهد للحالة العاطفية، ثم ينساب مع الكلمات في انسجام تام، حيث تتناغم النغمات الحزينة مع آهات الفراق، وترتقي الألحان عند الحديث عن الأمل واللقاء. الكاشف استخدم مقاماً موسيقياً يحمل روح التراث السوداني الأصيل، مع لمسات عصرية تجعل اللحن خالداً عبر الأجيال.
إبداع عصام محمد نور: جسر بين الأصالة والمعاصرة
في عصر قل فيه الفنانون القادرون على حمل أمانة التراث الغنائي السوداني، يبرز الفنان المبدع عصام محمد نور كصوت استثنائي تمكن من إعادة إحياء “الشوق والريد” بأداء يحمل روح الأصالة ونكهة العصر.
أداء عصام محمد نور يتميز بعدة جوانب:
التقنية الصوتية المتقنة: حيث تمكن من التعامل مع تقلبات اللحن بمرونة واقتدار، محافظاً على روح اللحن الأصلي.
الإحساس العميق: نجح في نقل المشاعر المختلفة في النص، من الحنين إلى الألم إلى الأمل، بطريقة تلامس وجدان المستمع.
الأصالة في الأداء: حافظ على الطابع السوداني الأصيل للأغنية دون إفراط في التحديث أو التغيير.
التفاعل مع النص: أظهر فهماً عميقاً لمعاني الكلمات وسياقاتها، مما انعكس على أدائه المعبر.
خلود الجمال
تبقى “الشوق والريد” شاهداً على عبقرية الإبداع السوداني، حيث التقت كلمات السر قدور الشاعرية بلحن إبراهيم الكاشف الخالد، لتخلق تحفة فنية تتجدد مع كل جيل. وفي أداء عصام محمد نور نجد الدليل على أن التراث الأصيل لا يموت، بل يتجدد ويزدهر في أصوات تعرف كيف تحمل الأمانة وتنقلها إلى الأجيال القادمة.
هذه الأغنية ليست مجرد كلمات ولحن، بل هي رحلة في أعماق الروح الإنسانية، تعبر عن أسمى المشاعر وأنبل الأحاسيس، وتبقى شاهداً على أن الفن الحقيقي هو ذلك الذي يخاطب القلب قبل العقل، ويلامس الوجدان قبل الحواس.

زر الذهاب إلى الأعلى