
مقال تحليلي: بقلم المستشار معاوية أبوالريش
في خضم الأزمة السودانية المتفاقمة منذ أبريل 2023، اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية خطوة استثنائية تعكس تصاعد التعقيدات والانتهاكات في هذا الصراع المدمر. ففي 22 مايو 2025، أعلنت واشنطن فرض عقوبات جديدة على السودان بعد توصلها لخلاصة مفادها أن حكومة بورتسودان استخدمت أسلحة كيمائية في حربها ضد قوات الدعم السريع خلال عام 2024. هذا القرار، الذي دخل حيز التنفيذ فعلياً في 6 يونيو 2025، لا يمثل مجرد إجراء عقابي إضافي، بل يفتح فصلاً جديداً في تعقيدات الصراع السوداني ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل الوضع السياسي والإنساني في البلاد.
استندت الولايات المتحدة في قرارها إلى قانون مكافحة الأسلحة الكيمائية والبيولوجية والقضاء على الحرب الكيمائية لعام 1991، حيث خلصت في 24 أبريل 2025 إلى أن الحكومة السودانية انتهكت اتفاقية حظر الأسلحة الكيمائية التي يُعتبر السودان طرفاً فيها. هذه العقوبات تشمل فرض قيود صارمة على الصادرات الأمريكية إلى السودان، ومنع الوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأمريكية، بالإضافة إلى تجميد أي أصول أو معاملات مالية قد تكون للحكومة السودانية في النظام المصرفي الأمريكي. هذه الإجراءات لا تقتصر على كونها عقوبات مالية واقتصادية، بل تحمل في طياتها رسالة سياسية واضحة حول تراجع الشرعية الدولية لحكومة بورتسودان.
الاتهامات الأمريكية لم تأت من فراغ، بل استندت إلى تقارير استخباراتية وتحقيقات ميدانية كشفت عنها صحيفة نيويورك تايمز في يناير 2025. هذه التقارير أشارت إلى أن القوات المسلحة السودانية استخدمت أسلحة كيمائية في مناسبتين على الأقل في مناطق نائية من البلاد، مستهدفة قوات الدعم السريع بما يُعتقد أنه غاز الكلورين الذي يمكن أن يسبب أضراراً دائمة في الأنسجة البشرية وآلاماً تنفسية شديدة قد تؤدي للوفاة. من جانبها، ادعت قوات الدعم السريع وجود أدلة على استخدام عوامل كيمائية في مدن مثل مليط والكومة في شمال دارفور وفي العاصمة الخرطوم، مستندة إلى فحوصات التربة والمياه وبقايا المدنيين المحترقة وشهادات فرق تحقيق مستقلة، وفقاً لزعمها.
في مواجهة هذه الاتهامات الخطيرة، لجأ رئيس مجلس السيادة والقائد العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى خطوة دفاعية تكتيكية، حيث أصدر في 29 مايو 2025 قراراً بتشكيل لجنة وطنية لتقصي الحقائق حول الاتهامات الأمريكية. هذه اللجنة، التي تضم ممثلين من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع وجهاز المخابرات العام، كُلفت بالتحقيق في الاتهامات الأمريكية وتقديم تقرير “فوري” حول النتائج. لكن تشكيل هذه اللجنة لم يكن مجرد إجراء روتيني، بل يعكس استراتيجية متعددة الأوجه تهدف إلى إظهار التزام الحكومة السودانية بالمعاهدات الدولية وكسب الوقت لصياغة رد فعل أكثر تماسكاً، بالإضافة إلى التصدي للضغوط الدولية المتزايدة والحفاظ على التماسك الداخلي أمام القوى السياسية المحلية والحلفاء الإقليميين.
غير أن ما يلفت النظر هو أنه رغم مرور أكثر من شهر على تشكيل هذه اللجنة، لم تصدر أي نتائج أو توضيحات، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول طبيعة التحديات التي تواجهها. فمن الناحية التقنية، تواجه اللجنة صعوبات في الوصول للمناطق المتنازع عليها التي تشهد قتالاً مستمراً، بالإضافة إلى احتمال افتقارها للخبراء المتخصصين في الكشف عن استخدام الأسلحة الكيمائية. أما من الناحية السياسية، فإن الحساسية الأمنية للموضوع والضغوط الداخلية ضمن المؤسسة العسكرية والاعتبارات الدبلوماسية تجاه الحلفاء الإقليميين، كلها عوامل تُعقد مهمة اللجنة وتؤخر إصدار نتائجها.
هذا التأخير في حد ذاته يعكس عمق التأثير الذي أحدثته العقوبات الأمريكية على الأوضاع السودانية المتأزمة أصلاً. فمن الناحية الاقتصادية، تزيد هذه العقوبات من تفاقم الأزمة المالية حيث تحد من قدرة الحكومة على الوصول للأسواق الدولية، كما تؤثر على قطاعات حيوية خاصة التكنولوجيا والمعدات الطبية، وتساهم في تراجع الاستثمار من خلال زيادة مخاطر الاستثمار في السودان. وعلى الصعيد الإنساني، تُعقد العقوبات من تدفق المساعدات الإنسانية في وقت تتفاقم فيه أزمة الكوليرا في الخرطوم، وتزيد من صعوبة الحصول على المعدات الطبية مع انهيار النظام الصحي، بينما يستمر النزاع في إنتاج المزيد من النازحين الذين وصل عددهم إلى 13 مليون نازح في ظل ظروف إنسانية متدهورة.
أما سياسياً وعسكرياً، فإن تأثير العقوبات يمتد إلى تعديل ديناميكية الصراع حيث قد تدفع حكومة بورتسودان للبحث عن حلفاء جدد أو تغيير استراتيجيتها العسكرية، كما تزيد من تعقيد أي مساعي سلام مستقبلية خاصة مع رفض الحكومة السودانية للاتهامات، وتؤثر على علاقات السودان مع دول الجوار في ظل الاتهامات المتبادلة بشأن دور الإمارات في الصراع.
في هذا السياق، تثار تساؤلات مهمة حول ما إذا كان دخول العقوبات حيز التنفيذ يعني عدم اعتراف واشنطن بحكومة بورتسودان كسلطة أمر واقع. الحقيقة أن العقوبات لا تعني بالضرورة عدم الاعتراف، لكنها تعكس بوضوح تراجع الشرعية الدولية للحكومة السودانية من خلال تآكل القبول الدولي لها وزيادة عزلتها الدبلوماسية وصعوبة حصولها على الدعم الدولي. هذا الوضع قد يدفع الحكومة السودانية للتقارب أكثر مع قوى إقليمية مثل روسيا والصين، ويُعقد العلاقات الخليجية خاصة مع الاتهامات المتبادلة بشأن دور الإمارات، ويؤثر على المبادرات الإقليمية للوساطة خاصة من مصر والسعودية.
بالنظر إلى مستقبل الصراع، تبدو التداعيات محفوفة بالمخاطر من ناحية احتمال التصعيد، حيث قد تدفع العقوبات الحكومة السودانية لتبني استراتيجية عسكرية أكثر عدوانية، وتزيد من صعوبة التوصل لحلول تفاوضية، مع خطر امتداد تأثيرات الصراع لدول الجوار خاصة تشاد وجنوب السودان. لكن في المقابل، قد تفتح هذه العقوبات فرصاً للتسوية من خلال دفع الأطراف المتصارعة لإعادة تقييم مواقفها، وإتاحة المجال لقوى دولية أخرى للعب دور وساطة أكبر، خاصة وأن نتائج لجنة تقصي الحقائق قد تكون نقطة تحول مهمة في مسار الأزمة.
في النهاية، تمثل العقوبات الأمريكية على السودان نقطة تحول مهمة في مسار الأزمة السودانية، حيث تتداخل فيها الأبعاد العسكرية والسياسية والإنسانية في صراع معقد لا يبدو أن له نهاية قريبة. تشكيل لجنة تقصي الحقائق، رغم تأخر نتائجها، يعكس محاولة الحكومة السودانية للتعامل مع الضغوط الدولية المتزايدة، لكن التحدي الأكبر يكمن في كيفية التوفيق بين الضرورات الأمنية والعسكرية للحكومة والالتزامات الدولية تجاه حظر الأسلحة الكيمائية. إن النجاح في التعامل مع هذه التحديات سيتطلب حكمة سياسية ومرونة دبلوماسية قد تكون غائبة في الوقت الراهن عن المشهد السوداني المتأزم، مما يجعل العقوبات الأمريكية عاملاً إضافياً في تعقيد مشهد لا يحتمل المزيد من التعقيدات.