
لم تكن الحرب السودانية التي اندلعت في أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع إلا نتيجة مباشرة لانهيارات متراكمة في بنية الدولة وتراكمات السلطة، لكنها – في وجهها الخفي – كشفت هشاشة مشروع الإسلاميين السياسي الذي ✍🏻المستشار/مهيد شبارقة
حكم السودان لعقود وكشفت انحصاره الجغرافي وخياراته السياسية المتكلسة بل وربما فشله الأخلاقي أيضًا واليوم، تبدو الجبهة الإسلامية بامتداداتها داخل الدولة العميقة وكأنها تختنق في جيوب شمالية محدودة بعدما لفظتها بقية المناطق.
#قبل الحرب: الإسلاميون بين الإنكار والتخطيط للعودة:
طوال الفترة الانتقالية بعد سقوط المخلوع في 2019مارس الإسلاميون حالة إنكار مستمرة لهزيمتهم السياسية ففي الوقت الذي تحركت فيه القوى الثورية لإعادة ترتيب السلطة المدنية كانت بقايا النظام السابق وفي القلب منهم الجبهة الإسلامية تعمل على إرباك المشهد عبر المكون العسكري والتحريض الإعلامي ومحاولات التسلل إلى مؤسسات الدولة مستغلة تفكك الحاضنة السياسية المدنية ومع الانقلاب في 25 أكتوبر 2021 عاد الإسلاميون بشكل أوضح احتفلت بعض منابرهم بعودة الانضباط وتحدثوا عن /تصحيح المسار وبدؤوا يروجون عبر صحفهم ومنصاتهم أن المدنية ليست الحل لكن في الحقيقة لم يكن ذلك إلا قناعًا لإعادة التمكين القديم بوجه جديد يترنح بين دعم المؤسسة العسكرية وبين الدفع نحو تفجير التناقضات الداخلية
#حين اندلعت الحرب: الإسلاميون في مرآة الأزمة:مع اندلاع الحرب بدا واضحًا أن الإسلاميين أو على الأقل دوائرهم التنظيمية المؤدلجة قد وجدوا أنفسهم في مفترق طرق حرج فبينما اصطف الشارع السوداني ضد الحرب ورفضها بشكل واسع لم تُصدر قيادات الجبهة الإسلامية أي إدانة واضحة بل ساد الصمت أو التبرير في بعض الأحيان لما يحدث بحجة الحفاظ على الدولة أو الجيش..!!
ومن مناطق الشمال حيث النفوذ التاريخي للتنظيم بدأت حالة من الارتباك والرفض الشعبي لحالة الحرب مع شعور متزايد لدى أبناء تلك المناطق بأنهم باتوا كبش فداء لصراع لا علاقة لهم به مباشرة وأن مشروع الإسلاميين الذي ارتكز لسنوات على مركزية الشمال النيلي بدأ يتآكل.
#ما بعد الحرب: الانكفاء إلى الشمال واستعداء الأطراف:من أخطر ما أفرزته الحرب هو الاصطفاف الجغرافي الذي بدأ يتشكل تدريجيًا فبينما تحوّل كثير من ولايات السودان كدارفور، كردفان، الشرق، وحتى العاصمة لساحات صراع وفوضى ظل الشمال خصوصًا الولاية الشمالية ونهر النيل محميًا نوعًا ما مما جعل البعض يتهم الإسلاميين بمحاولة إنتاج /جيتو سلطوي في الشمال بعد أن لفظهم الهامش والثورة.
اذا قإن الاستعلاء السياسي الذي مارسته الجبهة الإسلامية لعقود من خلال احتكار السلطة والثروة وفرض الهوية القسرية يُدفع ثمنه اليوم فقد أصبح خطابهم مرفوضا في الشرق متهمًا في كردفان ممجوجًا في دارفور، ولا يستساغ حتى في الخرطوم وولايات الوسط..!!!
#اختناق داخلي واستقالات ناعمة؛
من المهم الإشارة إلى أن ما بعد الحرب شهد أيضا تململًا داخل صفوف الإسلاميين أنفسهم حيث بدأت أصوات شبابية حتى من المناطق الشمالية تتململ من التمترس خلف شعارات قديمة وتطرح تساؤلات أخلاقية وسياسية عن مصير الحركة ومسؤوليتها عن خراب الدولة وربما عن الحرب نفسها فلم يعد بإمكان الجبهة الإسلامية أن تدعي تمثيل المشروع الإسلامي في السودان بعدما أصبحت رمزًا للاستقطاب السياسي والمناطقي ولغياب المشروع الوطني الجامع
#الاستقصاء والتخويف: نهج قديم يتهاوى حيث مارست الجبهة الإسلامية لعقود سياسة /الاستقصاء والتخويف سواء تجاه القوى السياسية المدنية أو تجاه المجتمعات غير العربية أو الحركات المسلحة لكنها اليوم تبدو في عزلة متزايدة حتى الجيش الذي حاول الإسلاميون التغلغل في مؤسساته لم يعد قادرا على حملهم وحدهم فمعادلة الحرب فرضت واقعا جديدًا، لا يمكن للإسلاميين التحكم فيه ولا للآخرين تجاهله
خاتمة: حين ينقلب السحر على الساحر: لقد سعت الجبهة الإسلامية إلى السيطرة على السودان عبر مشروع أيديولوجي ضيق قائم على مركزية جغرافية وثقافية ودينية لكنها اليوم تواجه انفجار هذا المشروع من الداخل فحين تختنق رقبة التنظيم في مناطق الشمال فذلك لأن الآخرين الذين طالما استُقصوا لم يعودوا يقبلون بالدور الهامشي الذي فُرض عليهم ولأن السودان نفسه لم يعد يقبل بحلول متطرفة أو إقصائية بعد ثوراته وانتكاساته لذا فالمستقبل يطلب مشروعًا جديدًا… لا مكان فيه للإسلاميين إن لم يعتذروا أولًا، ويصارحوا أنفسهم قبل أن يطلبوا الصفح من شعب بأكمله.