في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، اختتمت الجولة الأخيرة من محادثات جدة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وجاءت النتيجة محبطة ومخيبة لآمال السودانيين الذين كانوا يتوقعون أن تتقدم المحادثات، ولو خطوة واحدة، تجاه وقف إطلاق نار لفترة طويلة، أو قصيرة، علهم يلتقطون خلالها ما تبقى من أنفاسهم.
بيان وزارة الخارجية السعودية الصادر عن المحادثات أشار إلى إلتزام طرفي القتال بتسهيل وتيسير مرور المساعدات الإنسانية إلى المدنيين المحاصرين بنيران القتال. لكن، هذا الالتزام هو مجرد تكرار لما تم التوقيع عليه قبل ستة شهور في اتفاق جدة بتاريخ 11 مايو/أيار الماضي، والذي تضمن سبعة بنود ركزت على تسهيل إيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين وحمايتهم، كما ركزت على التزام الطرفين بالقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان. ومثلما لم يتم الالتزام بذاك الاتفاق الموقع من طرفي القتال، ليس هناك ما يشير إلى نية تقيدهما بإلتزام الأمس، غير الموقع، خاصة بعد تدمير كبرى شمبات وتزايد حدة اللغة الإعلامية العدائية بين الطرفين، وليس التخفيف منها حسب ما بشّر به بيان وزارة الخارجية السعودية حول المحادثات الأخيرة.
أما الفقرة الأخيرة في البيان فمزعجة بعض الشيء لأنها تعطي انطباعا بالفشل عندما تتحدث بلغة أقرب إلى المناشدات الدبلوماسية عن أسف الميسرين لعدم تمكن الطرفين من الاتفاق على اتفاقات لتنفيذ وقف إطلاق النار، وعندما تقول إن الميسرين يحثون الطرفين لتقديم مصلحة الشعب السوداني أولا، وإلقاء السلاح، والإنخراط في المفاوضات، وكأنها إعلان من الميسرين برفع أيديهم عن الدفع، عبر المنبر، بوقف الاقتتال ولو مؤقتا.
صحيح أن البيان تحدث عن اتفاق الطرفين على الانخراط في آلية إنسانية مشتركة بقيادة مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية لمعالجة معوقات توصيل المساعدات الإغاثية، وعن تحديد جهات إتصال لتسهيل مرور وعبور العاملين في المجال الإنساني والمساعدات، وعن إنشاء آلية تواصل بين الطرفين المتقاتلين…، لكن كل ذلك، رغم إيجابيته، يظل مجرد نوايا طيبة من الصعب أن تتحقق على أرض الواقع، في ظل عدم وقف إطلاق النار وازدياد حدة المعارك، وفي ظل غياب الآليات المعروفة دوليا لخلق ممرات آمنة ومحمية لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية للمدنيين، تلبية لاحتياجاتهم وإنقاذا لحياتهم. فبدون توفير هذه الآليات، سيظل أي إلتزام حول معالجة معوقات توصيل العون الإنساني مجرد جمل وفقرات صماء في دفاتر الوسطاء. وفي هذا السياق، كنا قد نوهنا في مايو/ايار الماضي إلى ضرورة أن ينتبه وسطاء مفاوضات جدة للآليات الشجاعة التي خلقتها لجان المقاومة وغرف الطوارئ والتنظيمات الأخرى العاملة على الأرض، وبحث كيفية إدماجها، أو التنسيق معها، في تسهيل وصول المساعدات للسكان المحاصرين بالموت. ولايزال تنويهنا ساري حتى اللحظة!
اختتمت الجولة الأخيرة من محادثات جدة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وجاءت النتيجة محبطة ومخيبة لآمال السودانيين الذين كانوا يتوقعون أن تتقدم المحادثات، ولو خطوة واحدة، تجاه وقف إطلاق نار لفترة طويلة، أو قصيرة
نعم، كل التقدير والامتنان للجهد المبذول من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، ومبادرتهما لتنظيم المفاوضات بين ممثلين عن قيادة الجيش السوداني وعن قوات الدعم السريع في منبر جدة. لكن، من الواضح أن الفشل يتهدد هذا المنبر إذا لم يتم تدارك الأمر. والمسؤولية الكبرى في هذا الفشل، إذا حدث، يتحملها بالدرجة الأولى الطرفان المنخرطان في حرب مدمرة سعيا وراء انتصار عسكري حاسم لن يحدث كما أكد بيان الخارجية السعودية الأخير. والمسؤولية يتحملها، بالدرجة الثانية، القوى المدنية والسياسية السودانية التي تلكأت وتقاعست لأكثر من ستة شهور عن التوافق حول رؤية موحدة لكيفية وقف الحرب وما يرتبط بذلك من عملية سياسية، تقدمها للشعب السوداني وتضعها على طاولة منبر جدة. ونحن أشرنا أكثر من مرة إلى أن حل قضية شعب السودان لن تأتي من خارجه أو بالإنابة عنه.
لذلك، دعونا إلى وجوب انتظام كل الكتل والتنظيمات والمجموعات والشخصيات السودانية الرافضة للحرب في بنيان واضح المعالم من لجان ومجموعات عمل داخل السودان وخارجه، تنخرط في النشاط العملي في الجبهات المختلفة، في المجالات السياسية والإنسانية، وذلك وفق برنامج عمل مركز يتم التوافق عليه، والعمل على خلق آليات للتنسيق مع الجهود الخارجية الدولية والإقليمية، وتحديدا الجهود المبذولة في منبر جدة، للتوافق حول آليات الضغط الممكنة على طرفي القتال بشأن وقف دائم للأعمال العدائية.
والمسؤولية يتحملها أيضا، بالدرجة الثالثة، المجتمع الدولي والإقليمي العاجز حتى الآن، كما أشرنا كثيرا، عن الانتقال من محطة الشجب والإدانة وحث ومناشدة المتقاتلين أن يتوقفوا، إلى تفعيل الآليات الأخرى، المتاحة والمجربة، حسب الشرعية الدولية، للضغط على طرفي القتال وفرض وقف دائم للأعمال العدائية. والآليات الأخرى هذه، تشمل منع تدفق الأسلحة والذخيرة إلى الطرفين، تجميد الأرصدة والحسابات في البنوك العالمية والإقليمية، العقوبات على المؤسسات والأفراد، وكذلك بحث فرض إعادة تموضع القوات المتحاربة وفرض المناطق الخضراء، أو منزوعة السلاح، مع الأخذ في الاعتبار تجربة قوات الأمم المتحدة في السودان وجنوب السودان ودارفور، (يوناميس ويوناميد). وبالطبع، فإن هذه الآليات وغيرها المصاحبة لآلية التفاوض لوقف الحرب، يتطلب إقرارها وتنفيذها مشاركة دولية وإقليمية واسعة، وفي إطار الشرعية الدولية والقانون الدولي، كما يتطلب مشاركة دول الجوار، وخاصة مصر، وكذلك مشاركة الدول ذات العلاقة المباشرة بطرفي القتال أو بأحدهما.
أتمنى أن يشرع أطراف منبر جدة في إجراء تقييم جاد وصريح لأداء المنبر، بمشاركة أطراف المجتمع الدولي والإقليمي المعنية، بحثا عن المعوقات التي تمنعه من إحداث إختراق حقيقي يوقف القتال، والنظر في كيفية تكامل المنبر مع أي مجهودات أخرى معنية بوقف الحرب في السودان، وخاصة مبادرة دول الجوار. أما أن يُترك شعب السودان ليواجه مصيره وحيدا وسط هذا الكم الهائل من الدمار والتقتيل، في ظل هذا الأداء المتدني للآليات الدولية والإقليمية المعنية بفرض وقف القتال، فإنها لجريمة كبرى لن تمحى أبدا من ذاكرة التاريخ وذاكرة الشعب السوداني، وستستمر تداعياتها لأجيال وأجيال.
نقلا عن ” القدس العربي “