الأعمدة

الزبون !!

اتفق رواد المقاهي العربية على إطلاق صفة “زبون” على كل “غشيم” في طاولة الزهر ، ويزيدوا عليه من التحفيل كثيرا في “بلاغة عامية” تختزل معاني الضعف وقلة الخبرة ، والغباء أحيانا في جملة واحدة : “زبون اللي مالوش زبون”.

كذلك رواد “المقاهى السياسية” في امريكا والغرب ، يرون القادة العرب “شوية” زبائن جاهزة ، في كل وأي وقت ، لشراء بضائعهم ، الفاسدة ، منتهية الصلاحية .. هم “زبائن” اللي مالوش زبون في أمريكا وأوروبا.

منذ أن أن تولى الراحل هنري كيسنجر ، وزير الخارجية الأمريكي ملف الشرق الأوسط ، وبعد “لسوعة” النفط التي صوبها أشقاؤنا في الخليج دعما لمصر في حرب أكتوبر المجيدة ، وجعلت الغرب يصرخ من ارتفاع أسعار البترول ، ويتجرع رغما عن أنفه “سخونتها” ، بدت الولايات المتحدة وكأنها تعتمد على فكرة  “اللي يتلسع من الشوربة ينفخ في الزبادي” .. وبالفعل أحكمت الولايات المتحدة في الأخير قبضتها على منابع النفط ، ونجح الوزير الأمريكي اليهودي ، كيسنجر، في تحويل المنطقة العربية إلى “سلطة زبادي” ، تلتهم منها الولايات المتحدة  كما تريد ، وقتما تشاء ، خصوصا وأن “زبادي” العرب سهل الهضم ولا يحدث تخمة مهما كانت كمياته.. من وقتها أصبح العرب “زبائن سمان” لشركات البترول والسلاح والمال الأمريكية ، وليس حتى عملاء يتربحون من وراءهم ، فعلى الأقل ، لدى العميل الحق في استرجاع البضاعة ، بينما الزبون …زبون!!

منذ بداية الحرب ، والدبلوماسية الأمريكية تدور وتلف حول هدف واحد يتمثل في منح إسرائيل أطول وقت ممكن  لإنجاز ما يردده نتينياهو حول أهدافه من الحرب ، مستغلة حالة “الزبادي” التي عليها العرب ، وتحشد في الوقت نفسه ترسانة نووية قبالة شواطىء المتوسط ، ومستخدمة ورقة الفيتو لتعطيل أي قرار أممي يلزم إسرائيل وقف إطلاق النار (ولو لبضعة أيام لإدخال المساعدات وإسعاف الجرحى) .

وعلى الخط الموازي ، تخشى أمريكا من اتساع نطاق الحرب ليشمل أطرافا أقليمية ، وما يمكن أن “تتدحرج” إليه تداعيات حرب ، قد تسفر عن  فوضى دولية تؤدي إلى أتساع ميادين القتال من الشرق الأوسط إلى أوروبا وشرق أسيا ، فضلا عن تصرفات غير محسوبة من أطراف دولية أخرى مثل كوريا الشمالية التي تعتبر الولايات المتحدة  المحرض والشريك الأساسي لإسرائيل في مجازر غزة كما يصفها زعيمها كيم إيل جونغ .

التقدير الاستراتيجي الأمريكي يرى خسائر فادحة قد تطالها ، و”تخرب” بيت العرب ، وتهدد مصالحهم الوطنية ، إذا ما امتدت  الحرب في الاقليم كما يلمح بلينكن وزير الخارجية الأمريكي في تصريحاته منذ العاشر من أكتوبر الماضى وإلى الآن .. لذلك يجب الحرص على وأد اتساع الحرب قبل أن تولد ، خصوصا وأن الفضاء الاستراتيجي الأمريكي شرق الأطلسي يتقلص كثيرا في ظل “مشاكل” واشنطن في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي .. الظرف الدولي العام غير موائم بالمرة لاتساع الحرب خارج نطاق غزة، وفقا لتقدير الموقف الأمريكي ، إلى جانب ضغط الداخل ، وانشغال البيت الأبيض بلانتخابات المقبلة نهاية العام.

تحت ظلال هذا السياق ، يمكن قراءة الجولات الأربع لبلينكن وزير الخارجية الأمريكي ، ولقاءاته مع قادة المنطقة .. الهدف عزل كل وأي طرف إقليميى يسعى إلى التدخل فيما يحدث بغزة ، تحت تهديد مخاطر التدخل واتساع الحرب ، لإفساح المجال أكثر وأكثر لآلة القتل الإسرائيلية لعلها تمضي قدما في مشروعها الصهيوني التوسعى، وابتلاع غزة للإنقضاض على الضفة ، وتهجير لفلسطينيين إلى الأردن ومصر.

الجميع وافق على شراء بضاعة “اتساع الحرب” بما فيهم إيران والصين وتركيا سواء برضا أو على مضض.. وإلى الآن ، تنجح أمريكا في إعادة “تعليب” البضاعة وتسويقها بهدف تربيح إسرائيل أطول وقت ممكن للقضاء على غزة والقضية الفلسطينية برمتها.

بضاعة أخرى يحاول بلينكن ترويجها للسعودية ..في الرياض التقى بوزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان قبل أن يتوقف في الإمارات العربية المتحدة، للدفع بعجلة التطبيع مع إسرائيل .. لم تمانع المملكة لكنها اشترطت الوقف الكامل لإطلاق النار وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة ، وبدوره لم يمانع بلينكن ، وقدم على الفور بضاعة أخرى ، تؤكد صدق وجدية النوايا الأمريكية ، في اتخاذ إجراءات ملموسة في اتجاه انسحاب اسرائيل من غزة تمهيدا للحلول الدبلوماسية للوصول إلى حل الدولتين ، وأعلن إرسال ” بعثة أممية” إلى شمال غزة ، لتقييم الأوضاع بشأن عودة النازحين ، وأكد على عدم ممانعة إسرائيل ذلك.. “بضاعة” غير صالحة للاستهلاك الآدمي ، ومحكوم عليها بالعطب خلال رحلتها إلى شمال غزة على طرق يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي .

في الإمارات وقطر ومصر والأردن ورام الله ، يعيد بلينكن عرض بضاعتة القديمة لـ “الزبائن” بالإعلان عن رفض واشنطن التام التهجير القسري للفلسطينيين ، وضرورة عودة سكان غزة إلى ديارهم المهدمة، متجاهلا أن ما يعلنه سبق وأن أعلنه وكرره من قبل :  “لا لإخلاء غزة من السكان ودفعهم إلى اللجوء إلى مصر”.

في نفس الوقت واللحظة ، تفسح أمريكا المجال أمام إسرائيل ، بالسلاح والفيتو، للإنفراد بغزة ، وقتل سكانها وتدمير بيوتهم وتخريب أرضهم .. ترفض أمريكا التهجير القسري وتتجاهل الإجرام والمجازر والتخريب الصهيوني ، إلى الدرجة التي محت الوجود ذاته في الشمال والجنوب ، ما دفع نحو مليون فلسطيني إلى النزوح لرفح ،على الحدود المصرية قبالة سيناء مباشرة.

أمريكا “تشتغلنا” بموضوع التهجير القسري ، لتلهينا عن الأهم والأخطر .. فرض أمر واقع مغاير، بموجبه تقطع إسرائيل أطول مسافة ممكنة في مشوار التهجير القسري ، بتحويل قطاع غزة إلى مكان غير صالح للحياة ،  والقضاء (تمنيات) على االمقاومة ، وعلى القضية الفلسطينية ذاتها.

آخر بضاعات بلينكن ، كان في رام الله .. التقى محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية وأعلن دعمه تدابير ملموسة لإقامة دولة فلسطينية ، ناسيا أن الولايات المتحدة و منذ العام 1993 ، وهي تسوق بضاعة “الدولة الفلسطينية ، وتترك إسرائيل في ذات الوقت تنفرد بالضفة الغربية وتقطعها بالمستوطنات إربا ، إلى الدرجة التي أعلنت فيها الخارجية الأمريكية (فبراير 2023) استحالة حل “الدولتين”.. ورغم ذلك يعيد الوزير الأمريكي عرض تلك البضاعة منتهية الصلاحية على الدول العربية ، وربما وعلى الكرة الأرضية كلها.

العرب يدركون تلك الحقائق ، ورغم ذلك يوافقون على شراء تلك البضاعة الفاسدة ، ولم يفكروا في استخدام أي بضاعة من مخازنهم ، تجنبهم التكاليف الباهظة للمخطط “الصهيو/ أمريكي” لأننا ندرك إننا “زبائن” ليس بوسعنا سوى القبول بكوننا مجرد “زبون” لبضائعهم منتهية الصلاحية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى