الأعمدة

حريق الخرطوم | صراطٌ نحو العافية (كاملا)… علي عبدالرحيم علي

علي عبد الرحيم علي؛ الأكاديمي في جامعة لندن

عسير على المرء أن يجد النافذة التاريخية المناسبة لينظر من خلالها إلى الخرطوم التي تحترق الآن لاستخراج العِبر. فما صنعه حميدتي بالبرهان والبشير من قبله يذكرنا بالقصة العربية الشهيرة لمجير أم عامر الذي صنع المعروف في غير أهله فانقلبت عليه بغدر مطبوع.

الذي صنعته مليشيا الدعم السريع بالجيش والدولة في السودان يشبه ما صنعه الهمج بجيش ودولة الفونج في سنار والترك ثم البويهيون بالعباسيين وحديثا صنعه الحوثيون في اليمن. وغزو الخرطوم واستباحتها على أيدي المجموعات البدوية من دارفور وأعراب الساحل الأفريقي يشبه ما صنعته ذات المجموعات بذات المدينة قبل قرن ونصف القرن، وهو مثال معروف للدورة الخلدونية الشهيرة حيث استباحت قبائل الجيرمان روما العظيمة وحين دخل المغول بغداد، منارة الحضارة حينئذ.

الخطر يجاوز الحاضر، فاحتلال الغزاة بيوت الناس في الخرطوم يمكن -إن انكسر الجيش السوداني لا سمح الله- أن ينتج حالة كتلك التي حصلت في فلسطين حين قامت المليشيات الصهيونية المسلحة بانتزاع بيوت وأراضي الفلسطينيين حتى غيرت عبر مزيج من العنف الصهيوني والسند الغربي والخذلان العربي الخارطة الاجتماعية لفلسطين وساد اليهود في البلد وأصبح أهلها مهاجرين أو مضطهدين تضيّق عليهم الأرض كل حين. هذه الحرب خطرها عميم يجاوز السودان إلى ما حوله وأبعد، والدرع الأخير الذي يحول دون هذا الشر الآن هو جيش السودان.

■ مملكة السودان القديم وصعود آل جنيد
السودان الحالي هو جوهرة التاج لما كان يسمى قديما “بلاد السودان” ويشمل الدول التي تفصل بين شمال الصحراء العربي وجنوبها الأفريقي وهي السودان الحالي وتشاد والنيجر ومالي وموريتانيا. هذا الحزام، باستثناء السودان، هو من أفقر المناطق السكانية في العالم حيث يعيش أكثر من 80% من السكان في منطقة الساحل (تشمل الدول أعلاه زائدا السنغال وبوركينا فاسو) تحت خط الفقر (دولارين في اليوم) بينما معدل الزيادة في السكان بين الأعلى في العالم ونصفهم عمره دون الـ15 بلا فرص حقيقية لحياة مدنية عصرية إلا القليل.

وسط هذا البؤس، نجد القبائل العربية هي الأسوأ حالاً، فانتشارها الأفقي جعلها شتاتا بين دول عديدة وحرمهم ميزة تشكيل غَلبة سكانية ذات عنصر مشترك، وهو حال يشبه حال الأكراد. لذلك، فهؤلاء الأعراب ظلوا أقليات مضطهدة في بلادهم غالب الوقت وبتمثيل محدود في النخب المتعلمة والسياسة والاقتصاد، وهم فوق ذلك لم يشكّلوا ثقلا ثقافيا يمنحهم أفضلية بين المجموعات السكانية الأخرى.

ظلت هذه المجموعات تعيش على هامش الصحراء تحدها شمالاً أنظمة قمعية صارمة وهم مغلوبون جنوبا بأعداد القبائل الأفريقية التي تحوز القوة غالبا سوى فترات ينتزع الأعراب فيها شيئا من السلطة. هذا الاستضعاف جعل بين هذه المجموعات شيئا من اللحمة والتناصر ساعة النداء وقد عرف عنهم نفرتهم (الفزع) لنجدة بني جلدتهم في الصراعات التي تحصل بين العرب والأفارقة دون اعتبار لحدود دولية.

هذا الأمر عانت منه دارفور زمنا طويلا وحرمها الاستقرار والنماء، ولكنه فوق ذلك ظل بقعة رخوة في خاصرة السودان حيث كان عسيرا على الدولة ضبط حدودها ومنع هذه المجموعات من (الغزو) متى شاءت. لكن الحكومات السودانية، في المقابل، سخّرت هذه الظاهرة لخدمتها حيث سلّحت العرب في مناطق التماس مع الجنوب ليشكلوا حائطا أوليا لصدّ المتمردين الجنوبيين.

وبعد اندلاع التمرد في دارفور، سلك المركز ذات النهج باستخدام القبائل العربية كمشاة لمواجهة حركات التمرد التي قامت في القبائل الأفريقية. فكرة حرس الحدود كانت تقنينا لظاهرة الجنجويد ذات البعد القبلي لتعمل تحت لواء الدولة، ثم تطور الأمر لتنشأ قوات الدعم السريع في 2013.

الانحراف الأخطر في هذا المسار كان عندما صدّر السودان فكرة قوات الدعم السريع إلى الخارج حيث خرجت كتائب من هذه القوات لتقاتل في اليمن وخطورة فتح هذا الباب أن عرب البقّارة في (بلاد السودان) يتجاوزون الـ6 ملايين حسب بعض الإحصاءات نصفهم تقريبا من الرجال ونصف هؤلاء دون الـ15، ما يعني أنّ القادرين على حمل السلاح قد يفوق المليون من الرجال. جلّ هؤلاء نشؤوا في صحراء قاسية واعتادوا القتال وتجمعهم عصبية الدم وفوق كل ذلك هم فقراء يبحثون عن الرزق. هذا نبع لجيش يساوي الجيش الروسي عددا وهو قليل التكلفة لمن يرغب في استخدامه.

اقتصاد السودان يكاد يساوي اقتصادات تشاد والنيجر ومالي وموريتانيا مجتمعات، وثقله الثقافي والإستراتيجي قريب من ذلك. هذا المزيج من طموحات التوسع والآمال الاستيطانية الخارجية والسلطوية وتواطؤ داخل الدولة هو الوقود الذي يبقي نار الحرب مشتعلة في السودان.

مصر ستعيش كابوسا أمنيا بوجود مليشيا قبلية تحكم السودان، وربما إدراك آل دقلو لأهمية مصر تجعلهم يسارعون بإرسال رسائل طمأنة إليها

■ *ماذا لو انتصرت المليشيا؟*
انتصار المليشيا في الحرب واستيلاؤها على السودان أمر مستبعد، ولكنه ليس مستحيلاً، وحتى نتوقّى هذا المآل علينا أن ندرك فداحته.

????أولا: استباحة الخرطوم
ستستباح الخرطوم (أكثر مما يجري الآن) لبعض الوقت قبل أن يهدأ سُعَار النصر ويحاول قادة المليشيا تقديم أنفسهم للعالم كقادة سياسيين قادرين على إدارة الدولة وضبطها. ولكن هذا لن يمنع مقاتلي المليشيا من الاستيلاء على ممتلكات المواطنين فيها خصوصا في أحياء النخبة والطبقة الوسطى وإخراج أهلها منها قسرا إن كانوا لا يزالون فيها.

هذا ستتبعه هجرة كثيفة من قبائل الصحراء من داخل السودان وخارجه إلى حواضره المستباحة ويلزم مع هذا تهجير قسري لأهل البلد إلى الأطراف أو الخارج (مصر في الغالب).

????ثانيا: الانتهازية السياسية
سيجد قادة المليشيا عددا وافرا من الانتهازيين السياسيين لتولّي عملية غسل الوجه السياسي لحكم آل جنيد في السودان مقابل بعض المواقع التنفيذية، ولكن قسمة الانتهازيين ستكون أدنى من زعماء وأمراء العشائر أهل الجنود. ستكون كما أي مملكة، يعلو فيها من علا نسبه من آل دقلو ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.

????ثالثا: القضاء على الإسلاميين
سياسيا، وتنفيذا لوعيد حميدتي المتكرر سيُقصَم ظهر الإسلاميين تماما، قتلا وسجنا وتشريدا في الأرض. هذا للأسف هو ما يُحبّب بعض الناس في هذا المآل البئيس، يدفعهم الغبن وشهوة التشفّي لا مصلحة البلد. بعدها، وكما أي مملكة، سينتهي العمل السياسي في السودان عدا عن الأسافير (المواقع الإلكترونية والتواصل الاجتماعي) والمهاجر.

????رابعا: الاضطهاد الاجتماعي
اجتماعيا، ستُستضعف قبائل دارفور الأفريقية على أساس عنصري ويسامون سوء العذاب بآلة الدولة التي غدت في يد غرمائهم من القبائل العربية. الأمر ذاته سيطال أهل الوسط والشمال على أساس طبقي حيث يبرر اضطهادهم باعتباره نصر الهامش على المركز أو دولة الدنيا على نخبة الوسط النيلي.

ولأن (النخبوية) هي حالة وعي في الأساس، فإن السيطرة بالقوة ستكون على الأصول المالية والمواقع في دولاب الدولة ومؤسسات المجتمع الثقافية والفنية ولكن ترجمة ذلك إلى حالة وعي وصعود حضاري لن تحصل إلا في عقود طويلة قد لا يسعف الزمن دولة آل جنيد لتمامها.

????خامسا: اقتصاد ريعي يصدر ثرواته
اقتصاديا، ستدار موارد البلد من وراء البحر. وسيُمنع السودان من أي توجه صناعي أو إنتاج تنافسي ليظل الاقتصاد ريعيا يصدر الثروات الخام ويستورد المصنوع ثم يسد الفجوة بالقروض والهبات. تصدير الخام يضمن للخارج موارد رخيصة، والحاجة إلى العون تضمن لهم الطاعة وحسن الانقياد.

????سادسا: حكم الساحل بأكمله
نجاح آل دقلو في السودان سيغري عرب الساحل بتكرار النموذج في بلادهم وهذه المرة بسند مباشر من السودان، والبداية ستكون في تشاد لجوارها الجغرافي الذي يسهّل الإسناد العسكري، ثم يستمر الأمر إلى النيجر ومالي. سيطمع آل دقلو في حكم الساحل بكامله عبر أبناء عمومتهم وسيطمع الأمير الشاب في التحكم في خاصرة مصر والمغرب العربي بكامله إضافة إلى الموارد الطبيعية لهذا الإقليم. هذا سيهدد حكومة الوفاق غرب ليبيا ويضعها في كماشة بين حفتر من الشرق وحليف من الجنوب.

????سابعا: كابوس أمني في مصر
مصر ستعيش كابوسا أمنيا بوجود مليشيا قبلية تحكم السودان ولاؤها مشتت. آل دقلو -لإدراكهم أهمية مصر- ربما يسارعون بإرسال رسائل طمأنة إليها وربما تجافوا في العلاقة مع إثيوبيا شيئا ما، بل ربما تزلّفوا لمصر بحياد ظاهري في نزاع سدّ النهضة، ولكن لن يكون حصيفا من مصر أن تأمنهم أبدا، وعليها أن تذكر قصة مجير أم عامر وتجد العبرة في البشير والبرهان.

السرد أعلاه يحوي الأسباب التي تجعل من تحقّق قيام هذه الدولة أمرا مستبعدا (وليس مستحيلاً)، ذلك أن الجهات التي سيصيبها الأذى الشديد من دولة آل جنيد كثيرة وقوية. دوليا، فإنّ مصر وتشاد وليبيا (الشرق) وحلفاءها الأتراك سيعملون بقدر ما على منع هذا الأمر.

داخليا، فإنّ عموم مكونات السودانيين الاجتماعية عدا بعض قبائل البقّارة سيصطفون مع الجيش في حربه مع المليشيا بالقول أو الفعل. هذا بدوره يجعل من احتمال الحرب الأهلية أمرا بعيدا كون المكون الأهلي الذي قد يصطف بعضه مع المليشيا هو مكون قليل العدد (مجموع قبائل البقّارة في السودان قد لا يصل المليون) وهذا لا يستدعي مشاركة بقية المكونات الاجتماعية في الحرب على الأساس القبلي وسيَكِلون الأمر للجيش وقوات الاحتياط.

لكن الفصيل الأهم في هذه المواجهة بجانب الجيش السوداني هم الإسلاميون. فالخطر عليهم من دولة المليشيا خطر وجودي ما يعني أنهم قد يستميتون في منعها. فوق ذلك، فهم التنظيم السياسي/الاجتماعي الوحيد القادر على القتال بجانب الجيش بشكل يحدث فرقا في سير المعركة ولهم خبرة طويلة في ذلك.

كل هذه العوامل تقود إلى أن قيام دولة آل جنيد غير راجح، ولو قامت، فاستدامتها مستبعدة. فإذا استبعدنا انتصار المليشيا يبقى أن مآل هذه الحرب هو أن ينتصر الجيش أو ينتهي الأمر بعجز الطرفين عن الفوز والبحث عن تسوية مقبولة. لكنّ عجز الجيش عن القضاء على تمرد المليشيا ليس أمرا بديهيا ويحتاج إلى تفسير.

■ مُعضِلة البرهان:

ظل البرهان منذ أن تولّى رئاسة المجلس السيادي والقوات المسلحة في أبريل 2019 وحتى اليوم يكابد وضعاً شديد الإرباك. فهو قد نُصِّب في الرئاسة لرعاية مطلوبات تغيير النظام السياسي للإسلاميين، ولكنه يقود جيشاً متعاطفاً معهم ولا يزال فيه بعضٌ من نفوذهم. وهو متهم – بشواهد عديدة – أنه يرغب في الحكم بينما القوى السياسة التي ساهمت في تغيير نظام الإنقاذ ظلت تلحّ عليه، وبسند غربي، أن يسلمها السلطة. كذلك، فالضغط الخارجي عليه لم يحمل أهدافاً متّحدة ما أعجز البرهان أن يُرضي الكل.
بدا واضحاً أنّ البرهان قرر أن يثق بدهائه وقدرته على أن يخادع الجميع فسمح بضرب الإسلاميين إرضاءً للثوريين والخارج، ولكنه لم يسمح بالقضاء عليهم إرضاءً للجيش ولإفزاع قوى الحرية والتغيير كل ما حاولوا الضغط عليه لتسليم الحكم.
وعندما حان ميقات التسليم حسب الوثيقة الدستورية انقلب هو وحلفاؤه العسكريون، حميدتي والحركات المسلحة، على حكومة حمدوك وأزالوا المدنيين من الحكم.
كان البرهان منذ أن تولّى الحكم وحتى قامت الحرب يعمل على تقوية الدعم السريع استجابة لإغراءات حميدتي وضغط الإمارات، ولكن بالأساس لاتقاء انقلاب في الجيش يقوده الإسلاميون وذلك برفع كلفة المواجهة المتوقعة بين الجيش والدعم السريع حال قام ذلك الانقلاب.
حميدتي بدوره كان في وضع مشابه ومارس ذات التلاعب لفترة طويلة وهو في صفّ البرهان. ثم، وبعد إزاحة المدنيين عن الحكم واحتدام التنافس نحو كرسي الرئاسة بين الرجلين، قرر حميدتي أن يغير الاصطفاف طمعاً في حلف يقربه من الأمريكان. هذا زاد موقف البرهان تعقيداً إذ أنه قد تمادى في تقوية حميدتي وقوّاته للدرجة التي جعلت الجيش يغلي غضباً حتى قامت حركة داخله بانقلاب لم يكتمل، والأمر الفارق أن هذه الحركة وذلك الغضب كان أساسه مهنياً محضاً ولا يحمل شيئاً من نفوذ الإسلاميين (اللواء بكراوي قائد المحاولة ليس إسلامياً).
البرهان سمح بتضخّم المليشيا لأنه كان يخشى غضب الإسلاميين داخل الجيش وانتهى به الأمر مُغضباً المؤسسة بكاملها بسبب تراكم الغبن والإهانات التي توالت عليها من صلف الرعاة القادمون من الصحراء بمال الخليج.
أما بعد أن بلغ الأمر مبلغ الحرب وحلّت ويلاتها على عموم السودانيين، صار البرهان محلّاً لسخط السودانيين جميعهم لا يزاحمه في ذلك إلا آل دقلو.

▪︎ ماذا يصنع البرهان لينجو؟ إن تمكن الجيش من هزيمة المليشيا فَقَدَ درعه الوحيد وربما أزاحه الجيش ضربة لازب إن لم يحاكمه بالخيانة، وسيهلل كل الناس لمحاسبته بصرامة كونه شريك حميدتي في المسؤولية عن هذا الخراب. وإن انتصرت المليشيا، فهو هالك لا محالة.
البرهان أمله الوحيد والضعيف هو أن تستمر الحرب ويصيب الجميع الرهق الشديد فيتراضون على تسوية توقف الحرب.
إن قبل الطرفان بالجنوح للسلم وتسوية النزاع فيستبعد أن يكون ذلك إلا بتحكيم وإشراف دولي يقسم الخرطوم إلى منطقة لنفوذ الجيش وأخرى للمليشيا ومنطقة وسط منزوعة السلاح تتوسع تدريجياً حتى تبدأ الحياة في العودة إلى طبيعتها.
ثم يقوم المشرفون بعدها بإجراء الجراحة التي تعيد هيكلة القوات المسلحة ودمج الدعم السريع داخلها. هذا ظاهراً.
أما باطناً، فإن القتال إذا توقف، قلّ حينها اهتمام الغربيين بالأمر وأوكلوه إلى أصحاب المصلحة في الإقليم.
مصر قد تحصل على ضمانات من الخليج ثم تعمل أمواله وأموال حميدتي للتأثير على الإشراف الدولي، الذي سيكون إفريقياً على الأرجح، ويجد الجيش السوداني أنه قد فقد الدفع العسكري في المعركة وشرعيته كممثل للدولة والشعب وقدرته على فرض أي مطالب، ثم تُفَكّك قدراته الصناعية والاقتصادية. ساعتها لا يبق لآل دقلو أو من يأتي بعدهم إن هلكوا سوى أن يملأ الفراغ الضخم.
أمنية البرهان ربما تكون أن يضمن موقعاً دستورياً وحصانة مقابل تسليم الجيش للإشراف الدولي بعد وقف الحرب.
ولكن إذا أنشب الوسطاء براثنهم في لحم الجيش وصار في رحمتهم، فإن البرهان سيصبح بلا قيمة بينما يظل يحمل تركة الخراب الثقيلة.
لذلك سينقُضُون أي عهد قطعوه معه وسيُترك أمره لمن يتولى الحكم أن يقرر ما يفعل به بعد إحالته المعاش.

■ معضلة الإسلاميين
البرهان سيكون سعيداً لو صارت هذه الحرب محرقة للإسلاميين داخل الجيش وخارجه من شبابهم المقاتلين.
هذا يضاف لجملة الأسباب التي تدفعه لإطالة أمد الحرب وتعطيل النصر. لكن الحقّ أنّ الجيش لديه مشكلة أخرى تعيق نصره، مشكلة المشاة.
قبل الإنقاذ، ظل الجيش في سجال طويل مع المتمردين في الجنوب وكان في ذلك معتمداً على الأسلحة الفنية في تحقيق انتصارات محدودة.
بعد الإنقاذ ودخول الدفاع الشعبي ساحة القتال أصبح المشاة من المجاهدين أكثر فاعلية وتأثيراً في الحرب (فاعلية أفزعت الخارج الذي ضاعف دعمه للتمرد وأعاد حالة السجال).
بعد انفصال الجنوب وتجدّد الحرب في دارفور أصبح الجيش يعتمد على مليشيا الدعم السريع لسدّ فجوة المشاة عنده، وقد أظهروا كفاءة في ذلك خففت نار الحرب بقدر بائن وإن لم توقفها.
المفارقة الآن هي أنّ شباب الإسلاميين يقاتلون مع الجيش صفاً واحداً ضد المليشيا التي أنشأها نظام البشير الذي جاؤوا به إلى الحكم. وكأنها تكفير بالدم عن خطايا لم يقترفها الشباب المقاتل الآن، ولكنهم احتملوا جريرتها حتى يبقى السودان. المشكلة هي أن المتطوعين وجنود وضباط الجيش في حربهم هذه يواجهون رصاص المليشيا بصدورهم وتتلقى ظهورهم طعن البرهان الذي يبحث عن مخرج. أفراد الجيش ملزمون بطاعة القائد، ولكن ما الذي يدفع المتطوعين أن يقاتلوا في حرب لا يرغب قائدهم في النصر فيها؟
أمّا الإسلاميون، فهو يراهم عدواً كما يرى المليشيا عدو، فكيف يقاتلون تحت قيادته؟
ولن تكون في الحرب انتقائية، تراخي البرهان سيجعل من الحرب محرقة للإسلاميين ولجنود وضباط الجيش ولعموم المتطوعين للقتال من السودانيين. هذا ليس تخذيلاً عن القتال، ولكنه حساب ضروري لمعطيات المعركة.

■ جواز الصراط

▪︎ أولاً، لا بدّ أن يُبعد البرهان عن إدارة المعركة.
يمكن أن يُصاغ اتفاق داخل الجيش وبالترتيب مع التيارات السياسية والدول الخارجية التي تدعمه على منح البرهان حصانة قضائية وتنصيبه رأساً للدولة لفترة معلومة بعد نهاية الحرب ثم معاشاً كريماً عند دولة مضيفة، ويمكن أن يظل رئيساً رمزياً للجيش أثناء الحرب. ولكن يقوم الجيش بترتيب بيته الداخلي ليشكّل مجلساً يدير المعارك بعد أن يتخلص من كل البؤر الرخوة داخل الجيش سواءً الخائنة أو الضعيفة.

▪︎ ثانياً، بديهي أنّ من ينتصر في هذه الحرب سيحكم السودان ولو لحين، هذا لن يقتصر فقط على العسكريين، لو انتصرت المليشيا فستُشرك حلفاءها السياسيين في بعض الحكم، كذلك سيفعل الجيش. لذلك، فالترتيب الذي سيجري لما بعد الحرب ينبغي أن يصاغ الآن عهداً ملزماً قبل أن تنتهي الحرب. لا جدوى من التظاهر، استرضاءً للغرب، بأنّ الجيش سيسلّم السلطة للمدنيين بعد الحرب، ولا ينبغي له، فلا هم سيقدرون عليها ولا هو سيقدر. ينبغي أن يصاغ اتفاق سياسي يمنح الجيش منزلة سياسية يقف فيها حارساً لترتيب الانتقال الديموقراطي المتدرج والمدروس ولتعويض وتعضيد الأمن والطمأنينة اللذان فقدناهما في الحرب. مهمة السياسيين ستكون ألا يصيب السودانيين اليأس من الحرية بعد ويلات الحرب ويُسْلِمون آمالهم في الحرية والعدالة ليجدوا السلام. تحقيق هذا الاتزان الحرج سيحتاج هذه المرة إلى حكمة عالية وأناة شديدة.

▪︎ ثالثاً، سيطرة تنظيم الإسلاميين على الجيش مجرد خرافة لم تتحقق حتى في غالب سنوات الإنقاذ. بل إنّ البشير، وحرصاً منه على ألّا يملك التنظيم الإسلامي أمره، حرص على خلق جفوة شديدة بين التنظيم والجيش ونجح في ذلك بشكل، وللمفارقة، جعل من سقوطه في أبريل 2019 ممكناً. ولكن رغم ذلك فالحلف الآن بين الإسلاميين والجيش يبدو حتمياً بسبب العدو المشترك والطبيعة المحافظة لغالب العسكريين، واخفاء هذا الحلف عن أعين السودانيين والخارج يبدو مستحيلاً وغير مبرر. إذا انتصر الجيش في هذه الحرب سواء بسند قتالي من الإسلاميين أو دونه، فهو سيحتاجهم ظهيراً سياسياً لإدارة الدولة. يحسن أن يكون العهد بين الجيش والإسلاميين والسودانيين معلناً. عهد يحفظ للجيش حظاً من الاستقلال الإداري والمالي ويعطي الإسلاميين وحلفاءهم فرصة جديدة لتثبيت نظام سياسي ديموقراطي مستدام بعد أن أضاعوها أيام الإنقاذ.

▪︎ رابعاً، إدارة العلاقات الخارجية بعد الحرب ستحتاج إلى الحكمة الممزوجة بالقوة والاعتزاز. الحكم في السودان بعد الحرب سيكون شبه عسكري وعلى الغربيين أن يتعاملوا مع هذا. الإسلاميون سيكونون جزءً من المشهد السياسي بعد الحرب وعلى الغرب وبعض دول الإقليم التعامل مع هذا. وفي تعدد الأقطاب في العالم اليوم مندوحة عن لبس الأقنعة والتذلل.

▪︎ خامساً، إذا حصلت التسوية بإشراف دولي وانتبه الجيش لمزالقها ولم يسلم نفسه للهيكلة، فمن الممكن أن ينتهي الأمر بإعادة المليشيا وداعميها ترتيب أمرهم بالتكتل في دارفور ثم العمل على فصلها في دولة مستقلة. هذا أمر يمكن حينها تداركه ومنعه وقد يكون فيه نهاية بطيئة لأزمة طويلة.

■ ختاماً:
يسيرٌ علينا كسودانيين أن نرى بارقة الأمل في الخروج من هذا البلاء حين نرى تمايز الحق والباطل هذه المرة شديد الجلاء. دخان الحريق الذي يشتعل في الخرطوم الآن أزال غبش الرؤية عمن يريد الخير للسودان ومن يريد السوء. سيجوز السودان هذا الصراط نحو العافية، والنار التي يخوضها الآن ستجلو الصدأ وتنفث خبث المعدن وتبعثه عنقاء تنهض من الرماد وتحلق عالياً، وما ذلك على الله بعزيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى