الأعمدة

ظرفاء وشجعان حتى أمام الحكام !

النكتة الساخرة كانت ولا زالت تلعب دورا هاما في مختلف المجتمعات وهي قد تصبح مرآة تعكس الحالة العامة على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والإقتصادية والأمنية ترسم صورة كلامية ينسجها اذكياء المجتمع و يطلقوها في الفضاءات الرحبة أو الضيقة بغض النظر عن مساحة حرية التعبير المتاحة ليس من قبيل التنفيس عن احتقان النفوس وإخراج الهواء الساخن من الصدور فحسب بل بدرجة من الفعالية تماما مثلما يعبر الرسام الصحفي بالكاريكاتير في رسومات يتبعها تعليق بسيط ولكنه عميق في كلمات قد تغني عن مقال بحاله .
وقد شهدنا عصر شيخ فناني الكاريكاتير الراحل عز الدين عثمان فكان الناس في فترات ديمقراطية ما بعد ثورة اكتوبر1964 ينتظرون الصحف في الصباحات الباكرة عند منافذ البيع بالصفوف لمعرفة اين تتجه بوصلة الأوضاع في البلاد من خلال ما تخطه ريشة عز الدين . .ومن الطريف أن كبار السياسيين الذين درج على تصوريهم في أوضاع ساخرة يتقبلون تلك الظاهرة بكل ترحاب الى درجة أنهم يهاتفون ابو العز لمداعبته و استقصاء مقاصده كما كان يحكي لنا بنفسه وقد كنت قريبا منه وتتلمذت على خبرته التحريرية في صحف الايام الخوالي .
ويقال إن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كان يطلق عيونه ويرخي اسماعه عبر من ينشرهم في المقاهي والمجالس ليستشفوا له ماذا يقول الرأي العام في النكات التي يتبادلها غمار الناس أو يتداولها المثقفون في مجالسهم ويتخذ من القرارات احيانا استنادا على ذلك الاستفتاء الفطري الصادق .
حكى الاستاذ الراحل السر قدور أنهم ومجموعة من المطربين و المسرحيين رافقوا الرئيس الراحل ابراهيم عبود في سنوات الستينيات الاولى إلى جنوب السودان وكان اهتمامه كبيرا بالفنون وفي أحد الأيام طلب الرئيس من القائمين على الأمر اختصار سهرة ذلك اليوم في عدد محدد من المغنتين واستبعاد البعض وشمل الأبعاد الفنان الكبير ابراهيم الكاشف له الرحمة الذي غضب وأطلق قولا نقله رجال الأمن للرئيس حيث قال دون خوف..كيف يستبعدني عبود وهو الذي كان يحمل لي حقيبتي في يوم من الايام !
فلم يغضب الرئيس وقال ضاحكا ..فعلا انا حينما كنت ضابطا في احدى الحاميات الطرفية وكان الكاشف يأتيني هناك كنت استقبله في المحطة بسيارتي وأحمل له حقيبته حتى مقر إقامته فاذهبوا اليه وابلغوه اعتذاري و احضروه ليغني ضمن حفل الليلة .
الراحل عبد العزيز محمد داؤد الذي عرف بالطرفة وهو صاحب الظل الخفيف والروح المرحة وسرعة البديهة رافق الرئيس جعفر نميري في إحدي رحلاته الخارجية فسأله أثناء العودة إلى الخرطوم بالطائرة إن كان يملك أرضا أو عمارة ..فرد عليه ابوداؤد بأنه لا يملك غير منزله الحالي في بحري . فقال له نميري إذا ماذا تقول لو انتا أمرنا لك بقطة أرض درجة اولى ..ففاجأه أبوداود . اقول عليك أن يكتب لي ذلك بصورة رسمية فاستغرب الرئيس وقال له بحزم الا تثق في كلامي ياعبد العزيز.. فرد بلى ولكني أخاف أن يستيقظ غدا اخو بنية مبكرا قبل أن تصحو انت من نومك و يقوم باستلام السلطة كما فعلت انت من قبل فأين يجد اولادي بعد موتي تلك الأرض في هذا السودان الواسع ؟
فضحك نميري حتى بانت نواجزه مشيدا بجرأة ومنطق صديقه أبوداود وأمر سكرتاريته على الفور بتوثيق تلك المنحة ويقال والعهدة على الراوي أن ذلك حدث قبل أربعة أيام فقط من وفاة عبد العزيز الذي عاد من تلك الرحلة وهو يشعر بوطاة العلة التي لم تمهله طويلا . ولكن ذكراه خلدت في وجدان الشعب السوداني لظرفه وشجاعته و أصالة فنه .
طيب الله ثراهم جميعا .
الصورة لفنان الكاريكاتير الأشهر في السودان الراحل استاذنا عز الدين عثمان عليه الرحمة والمغفرة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى