
كم مرة في التاريخ ظن الطغاة أنهم قد بلغوا الغاية، وأن الدماء التي سالت على أيديهم كانت ثمناً مستحقاً للنصر؟ وكم مرة انخدع الطغاة بأوهام القوة، فحسبوا أن صرخات الضحايا ستتلاشى مع هبوب الرياح، وأن ذاكرة الشعوب ستمحو آثار المجازر مع مرور الأيام؟
أتأمل اليوم ما يجري في السودان، بلد الثورات الذي طالما حلم أبناؤه بالحرية والكرامة والعدالة… ذلك البلد الذي توارى فيه صوت العقل خلف هدير المدافع، وتبخرت فيه نداءات السلام أمام رغبة البطش والانتقام.
دعوة “صمود” المدنية لإيقاف الحرب لم تكن نابعة من ضعف، بل كانت صرخة حكمة وسط جنون الدمار. لكن الآذان الصماء لا تسمع سوى صدى أحلامها بالسيطرة، والعيون العمياء لا ترى سوى سراب الانتصارات الوهمية.
“للظلم حدود، وللصبر حدود، وما بين هذه وتلك تقوم الثورات”. ولكن الثورات حين تنحرف عن مسارها، وحين تتحول القوة من وسيلة لتحقيق العدالة إلى غاية لترسيخ الاستبداد، فإنها تفقد روحها وتتحول إلى وحش يلتهم أبناءه.
ها هي الملايش تجز أعناق الشباب والرجال بتهم زائفة، وها هي تلصق بهم تهمة “المتعاونين” . يقتلون من يحاول أن يمد يده للإنقاذ، ويكرمون من يغمس يديه في الدماء. وما كيكل ببعيد …
في مشهد عجيب ، يتحول الجلاد إلى قاضٍ، والقاتل إلى مدعٍ والمجرم إلى واعظ. ويتساءل المرء بحيرة: هل هذه هي النهاية التي سعى إليها الشعب السوداني؟ هل هذا هو الفجر الذي انتظروه طويلاً؟
المشكلة ليست في أن الوصول إلى السلطة، المشكلة في أن نصل إلى الإنسان”. فهؤلاء الذين وصلوا إلى السلاح وظنوا أنهم قد وصلوا إلى الحقيقة، لم يدركوا بعد أن الرصاص لا يخلق وطناً، وأن الخنادق لا تبني مستقبلاً.
كيف يمكن لأمة أن تنتصر على نفسها؟ كيف يمكن لشعب أن يحتفل بقتل أبنائه؟ وكيف يمكن لوطن أن يبنى على جماجم مواطنيه؟
لو كان الانتصار يتحقق بالظلم والفساد، لكان الطغاة هم سادة التاريخ، ولكانت الإمبراطوريات القائمة على العبودية والقهر هي أطول الإمبراطوريات عمراً. ولكن الحقيقة التي تبرهن عليها صفحات التاريخ مراراً وتكراراً هي أن الظلم لا يدوم، وأن الأوطان التي تبنى على الدماء سرعان ما تنهار على رؤوس بناتها.
ينظر العالم اليوم إلى السودان بقلب يعتصره الألم. ذلك البلد الذي يمتلك من الموارد ما يجعله جنة الله في الأرض، وذلك الشعب الذي يمتلك من الطيبة والكرم ما يجعله نموذجاً للإنسانية الحقة، كيف تحول إلى مسرح للقتل والتشريد؟
الحقيقة المرة التي يجب أن نواجهها هي أن الانتصار المبني على الظلم ليس انتصاراً، بل هو هزيمة مؤجلة. والسلطة المبنية على الفساد ليست سلطة، بل هي سقوط محتوم.
يقول المثل السوداني القديم: “الظلم ما بدوم”، وصدق المثل. فالظلم قد يستمر لعام أو لعشرة أعوام أو حتى لقرن من الزمان، لكنه في النهاية سيسقط، وستنهض من تحت أنقاضه بذور الحرية والعدالة.
أيها السودانيون، لا تيأسوا. فإن الليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر. والظلام مهما اشتد فإن شعاع الشمس سيبدده. والظلم مهما استشرى فإن أنفاس الحرية ستطويه.
لا يمكن للسلاح أن يصنع سلاماً دائماً، ولا يمكن للعنف أن يخلق استقراراً حقيقياً، ولا يمكن للكراهية أن تبني وطناً. إن الوطن يُبنى بالحب والتسامح والعدالة.
عودوا إلى طاولة الحوار، وأنصتوا إلى أصوات الحكمة، وتذكروا أن الشعب السوداني يستحق أكثر من هذه المأساة، وأن الأجيال القادمة لن تغفر لكم إن ضحيتم بمستقبلهم من أجل أطماعكم وأوهامكم.
كما قال أنيس منصور ذات يوم: “الحياة ليست مجرد أن نعيش، بل هي كيف نعيش، ومن أجل ماذا نعيش”، فاختاروا أن تعيشوا من أجل السلام وليس من أجل الحرب، من أجل البناء وليس من أجل الهدم، من أجل الإنسان وليس من أجل السلطة.
ففي نهاية المطاف، سيكتب التاريخ أن الانتصار الحقيقي ليس للذي قتل أكثر، بل للذي أحب أكثر. وليس للذي دمر أكثر، بل للذي بنى أكثر. وليس للذي ظلم أكثر، بل للذي عدل أكثر.
تحياتي