
بقلم : معاوية أبوالريش
في عالم تتلاطم فيه الأمواج وتتصارع فيه التيارات، تبرز شخصيات تمثل ثوابت الأمة وقيمها الأصيلة، تقف شامخة كالجبال الراسيات، لا تهزها العواصف ولا تغيرها المصالح. ومن بين هذه الشخصيات المرموقة يأتي سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، المفتي العام لسلطنة عُمان، الذي يُعد أحد أبرز علماء الأمة الإسلامية المعاصرين وأحد رموزها الفكرية البارزة.
“المسيرة العلمية: نهر متدفق من المعرفة”
بدأ الشيخ أحمد الخليلي رحلته مع العلم منذ نعومة أظفاره، متتلمذاً على أيدي كبار العلماء في بلده عُمان وخارجها. تميزت شخصيته العلمية بالموسوعية والعمق، فهو لم يقتصر على علم واحد، بل برع في علوم الشريعة المختلفة من تفسير وحديث وفقه وأصول، بالإضافة إلى تضلعه في اللغة العربية وآدابها.
يُعرف الشيخ الخليلي بمنهجه العلمي الرصين الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فهو يستند إلى الأدلة الشرعية ويراعي مقاصد الشريعة، مع فهم عميق لواقع الأمة وتحدياتها. وقد تجلى ذلك في فتاواه ومؤلفاته العديدة التي تناولت مختلف القضايا الفقهية والفكرية المعاصرة.
من أبرز مؤلفاته “الحق الدامغ” و”جواهر التفسير” و”شرح غاية المراد في نظم الاعتقاد”، وغيرها من الكتب والأبحاث التي أثرت المكتبة الإسلامية. كما أن له العديد من المحاضرات والدروس العلمية التي تشهد على غزارة علمه وسعة أفقه.
” منهج الوسطية والاعتدال: جسر بين المذاهب”
يتميز الشيخ الخليلي بمنهجه الوسطي المعتدل الذي ينأى عن الغلو والتطرف، ويدعو إلى الوحدة الإسلامية ونبذ الفرقة والاختلاف. فرغم انتمائه للمذهب الإباضي، إلا أنه يمد جسور التواصل مع مختلف المذاهب الإسلامية، ويؤكد على أن الاختلاف في الفروع لا ينبغي أن يؤدي إلى التفرق في الأصول.
لقد كان الشيخ من الدعاة البارزين للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات الهادفة إلى تعزيز الوحدة الإسلامية، مؤكداً على أن ما يجمع المسلمين أكثر بكثير مما يفرقهم.
” مواقفه من القضية الفلسطينية: صوت الحق لا يخفت”
تميز الشيخ أحمد الخليلي بمواقفه الثابتة والداعمة للقضية الفلسطينية، التي اعتبرها قضية الأمة المركزية. ولم تكن مواقفه مجرد كلمات عابرة، بل كانت ذات تأثير كبير نظراً لمكانته العلمية ومنصبه الديني الرفيع.
كان من أوائل العلماء الذين أفتوا بتحريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، معتبراً أن فلسطين أرض إسلامية محتلة، وأن المقاومة حق مشروع للشعب الفلسطيني. وفي خضم الأحداث المتلاحقة التي تعصف بالقضية الفلسطينية، ظل صوت الشيخ الخليلي مدوياً بالحق، لا تلين له قناة ولا تثنيه الضغوط.
في أعقاب الهجمات الأخيرة على غزة، أصدر الشيخ بيانات قوية ندد فيها بالعدوان الصهيوني، ودعا العالم الإسلامي إلى التحرك العاجل لنصرة إخوانهم في فلسطين. وأكد على أن دعم القضية الفلسطينية واجب شرعي وإنساني، وأن التخاذل عن نصرتها يعد تفريطاً في أمانة الأمة.
” نصرة قضايا المسلمين: قلب يتسع للأمة جمعاء”
لم تقتصر مواقف الشيخ الخليلي على القضية الفلسطينية فحسب، بل امتدت لتشمل مختلف قضايا المسلمين في شتى بقاع الأرض. فكان صوتاً صادحاً بالحق في نصرة المستضعفين، ومدافعاً عن كرامة الأمة وحقوقها.
وقف الشيخ مع قضايا المسلمين في بورما وكشمير والشيشان وغيرها من المناطق التي يعاني فيها المسلمون من الاضطهاد والظلم. وكان دائماً ما يؤكد على ضرورة وحدة الصف الإسلامي في مواجهة التحديات التي تعصف بالأمة.
” الخطاب الإسلامي المعاصر: تجديد لا تبديد”
يُعد الشيخ الخليلي من رواد تجديد الخطاب الإسلامي المعاصر، الذي يحافظ على ثوابت الدين وقيمه، مع مراعاة متغيرات العصر ومستجداته. فهو يرى أن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان، وأن علماء الأمة مطالبون بتقديم رؤى وحلول إسلامية لمشكلات العصر.
وقد تجلى ذلك في تناوله للعديد من القضايا المعاصرة مثل العولمة والتحديات الثقافية وحوار الحضارات وحقوق الإنسان وغيرها، حيث قدم رؤية إسلامية متزنة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.
“حوار الحضارات: جسور التواصل الإنساني”
آمن الشيخ الخليلي بأهمية الحوار بين الحضارات والثقافات المختلفة، باعتباره وسيلة للتعارف والتفاهم ونشر قيم السلام والتعايش. وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات العالمية التي تناولت هذا الموضوع، حيث قدم صورة مشرقة عن الإسلام وقيمه السمحة.
وفي حواراته مع أتباع الديانات الأخرى، كان يؤكد على المشتركات الإنسانية والقيم الأخلاقية التي تجمع بين البشر، مع الحفاظ على الهوية الإسلامية وخصوصيتها.
” إرث خالد وعطاء متواصل”
يمثل الشيخ أحمد بن حمد الخليلي قيمة علمية وفكرية كبيرة للأمة الإسلامية، بما يقدمه من علم نافع وفكر متزن ومواقف شجاعة. ويظل نموذجاً للعالم الرباني الذي يجمع بين العلم والعمل، ويهتم بقضايا أمته ويسعى لنهضتها ورفعتها.
إن ثبات الشيخ الخليلي على الحق ودفاعه المستميت عن قضايا الأمة، وخاصة القضية الفلسطينية، يعد درساً بليغاً في الشجاعة والإخلاص، ونبراساً يُهتدى به في زمن كثر فيه المتلونون والمتذبذبون.
فسلام على الشيخ الجليل أحمد بن حمد الخليلي، منارة العلم وصوت الحق، وحفظه الله ذخراً للإسلام والمسلمين.