رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

بروف نبيل حامد يكتب : تخريب الانسان من اكبر جرائم الانقاذ

كتب بروفسر نبيل حامد من جامعة الجزيرة :
حين نتحدث عن الخراب الذي خلّفته الإنقاذ في السودان، لا ينبغي أن ينحصر حديثنا في نهب المال العام أو تمكين الفاسدين، بل علينا أن نذهب إلى الجريمة الأعمق: تخريب الإنسان نفسه. الإنقاذ لم تكتفِ بسرقة خيرات البلاد، بل سرقت ضمير الناس، وشوهت مفاهيم الخير والشر، فحوّلت المواطن من ضحية إلى شريك في الجريمة، من مقاوم للفساد إلى متعايش معه، بل أحيانًا إلى مدافع عنه.
أسوأ ما فعلته الإنقاذ أنها كسرت ميزان القيم. جعلت الكذب شطارة، والسرقة فهلوة، والتزوير حيلة ذكية. لم تعد الرشوة تُستهجن، بل أصبحت واجبًا لأداء أي خدمة. لم يعد استغلال النفوذ عيبًا، بل غنيمة لمن وصل. لم يعد الفاسد منبوذًا، بل أصبح قدوة تُحتذى. اختلطت الموازين حتى بات المظلوم يُلام، والصادق يُتهم بالسذاجة، والنزيه يُقصى لأنه لا يجيد “اللعب”.
ولا أُبرئ نفسي. أنا أيضًا في لحظة ما، ربما تساهلت، ربما سكتُّ على خطأ، ربما قلت “ما دام كل الناس بتعمل كدا”، ومضيت. الإنقاذ صنعت منّا مجتمعًا يُربى على التطبيع مع القبح، حتى فقدنا البوصلة، وتآلفنا مع الانحراف دون أن نشعر. كلنا، بدرجات مختلفة، انكسرنا في تلك المعركة الطويلة. بعضنا قاوم، بعضنا تكيّف، وبعضنا تواطأ.
الإنقاذ رسّخت في وجدان الشعب أن الدولة عدو، وأن القانون لا يُطبّق إلا على الضعفاء. فأصبح الاحتيال على الدولة بطولة، والغش في المعاملات “نجاة”. بهذا الشكل، لم تعد المشكلة في النظام فقط، بل في الناس أنفسهم. تربّت أجيال على أن الغاية تبرر الوسيلة، وعلى أن البقاء للأقوى، لا للأصلح، ولا للأصدق.
ما فعلته الإنقاذ هو أنها نزعت من الإنسان السوداني إحساسه بالخجل من الخطأ، وأزالت الخوف من العقوبة، وذبحت روح المسؤولية. فصار الغش في الامتحان مقبولًا، واختلاس المال العام نوعًا من “استرداد الحقوق”، والتقاعس عن أداء الواجب أمرًا عاديًا. لم يعد أحد يشعر بالذنب، لأن الجميع “في الهمّ سواء”.
لكن مع ذلك، يظل هناك ضوء. فما أفسدته ثلاثون سنة من الغش، يمكن إصلاحه بجيل جديد من الوعي. لا يكفي أن نسقط النظام، يجب أن نسقط آثاره من داخلنا. يجب أن نستعيد إحساسنا بالخجل من الخطأ، وإيماننا بأن الصدق ليس ضعفًا، بل شجاعة. بأن النزاهة ليست مثالية حالمة، بل أساس أي نهوض حقيقي.
المعركة الآن ليست فقط ضد الفساد الإداري، بل ضد الفساد الذي صار يسكن العقول والقلوب. لا نهضة بلا ضمير. ولا حرية بلا وعي. ولا دولة بلا إنسان حر من الداخل، قبل أن يتحرر ،،

زر الذهاب إلى الأعلى