رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

“قصة الحب والعتاب : “خلاص يا قلبي كان خاصم” بين شاعرية كجراي وسحر إبراهيم حسين”

بقلم : معاوية أبوالريش

في عالم الشعر الغنائي السوداني، تبرز قصيدة “خلاص يا قلبي كان خاصم” للشاعر محمد عثمان كجراي كجوهرة نادرة تتلألأ بين كنوز التراث الغنائي السوداني الحديث ، وقد ازدادت توهجاً بصوت الفنان إبراهيم حسين الذي منحها روحاً جديدة وحياة خالدة. هذه القصيدة ليست مجرد كلمات منظومة، بل رحلة عميقة في دهاليز النفس البشرية، حيث يتصارع الحب مع الكبرياء، والحنين مع الجفاء.
البيت الافتتاحي: “دعوة للتسامح والصفح”
“خلاص يا قلبي كان خاصم.. ضميرو يحاسبو خليهو”
تمر أيام وينسى غرورو.. ويلقى هوانا راجيهو”
يفتتح كجراي قصيدته بدعوة حكيمة للتسامح، مخاطباً قلبه كما لو كان كائناً مستقلاً له إرادته وعناده. الكلمة الافتتاحية “خلاص” تحمل في طياتها استسلاماً جميلاً ونضجاً عاطفياً، فهي ليست استسلام الضعيف، بل حكمة المحب الذي أدرك أن المخاصمة لا تجدي نفعاً في عالم المشاعر.
الصورة الشعرية “ضميرو يحاسبو” تُظهر الصراع الداخلي بين العقل والقلب، حيث يصور الضمير كقاضٍ صارم يحاسب القلب على تقلباته. أما عبارة “تمر أيام وينسى غرورو” فتكشف عن فهم عميق لطبيعة الزمن كشافٍ للجراح، ودوره في تهذيب النفس وكسر حدة الكبرياء.
” بين العتاب والهجران”
“يعاتب يوم ويزعل يوم.. ويعذبنا بي ريدو
يتحدانا يوم يزعل.. تقول أقدارنا فوق إيدو”
في هذين البيتين، يرسم الشاعر لوحة بديعة لتقلبات الحبيب المزاجية، مستخدماً التكرار الإيقاعي “يوم” ليؤكد على استمرارية هذا التذبذب العاطفي. كلمة “ريدو” تعني في العامية السودانية “حبه”، وهي من “الريد” أي الحب، فالشاعر يصور كيف يعذبنا الحبيب بحبه نفسه، بتقلباته العاطفية.
التصوير في “تقول أقدارنا فوق إيدو” يُظهر مدى تأثير الحبيب على مصائر العاشقين، حيث يصبح بمثابة قائد يتحكم في مشاعرهم وأحوالهم. هذا التصوير يعكس عمق التعلق والتسليم المطلق للمحبوب.
” فلسفة العذاب الجميل”
“نقول يا ريتو لو يعرف.. عذاب الحب وتنهيدو
بدل ما نحنا بنعاتب.. بنفرح يوم يعاتبنا”
هنا يكمن جوهر الفلسفة الصوفية للحب، حيث يتحول العذاب إلى نعيم، والعتاب إلى فرح. العبارة “يا ريتو لو يعرف” تحمل أمنية العاشق أن يدرك المحبوب ما يكابده من ألم، لكنها أمنية مشوبة بالرضا والقبول.
التناقض الجميل في “بنفرح يوم يعاتبنا” يكشف عن عمق المفارقة العاطفية في الحب، حيث يصبح عتاب المحبوب أحب إلى النفس من جفاء الآخرين. هذا المعنى يُذكرنا بقول العرب “عتاب الأحباب أحلى من عسل الأغراب”.
” الاستجداء الرقيق والضراعة العاشقة”
“ونسأل عنو كان طول.. وما هاميهو كان غبنا
خلاص حرام ترمينا للأيام.. حنانك يا معذبنا”
يصل الشاعر إلى ذروة الضراعة والاستجداء، مستخدماً كلمة “حرام” التي تحمل في السياق معنى التوسل والاستعطاف. العبارة “ترمينا للأيام” تصور الأيام كوحوش مفترسة تنتظر فريستها من العاشقين المهجورين.
النداء “يا معذبنا” يحمل مفارقة عجيبة، فهو يخاطب المحبوب بصفة المعذِّب، لكن بنبرة المحب المستسلم الذي وجد في عذابه نوعاً من النعيم المقدس. والجملة الختامية في البيت الأخير “حرام تتناسى ريدتنا” – أي “حرام تتناسى حبنا” – تُظهر التوسل بألا ينسى المحبوب ما بينهم من حب عميق.
” القسم المقدس والعهد الأبدي”
“نحلف قلبك القاسي.. بكل حنان مودتنا
بأفراحنا وأشواقنا.. وبي لهفة محبتنا”
في هذا المقطع، يصل الشاعر إلى قمة البلاغة من خلال القسم المتعدد الجوانب. يقسم بـ”حنان مودتنا” و”أفراحنا وأشواقنا” و”لهفة محبتنا”، في تدرج بديع يشمل كل مشاعر الحب من الرقة إلى الشوق إلى اللهفة الحارقة. التضاد بين “قلبك القاسي” و”حنان مودتنا” يُبرز عمق التناقض في العلاقة العاطفية، حيث تواجه القسوة بالحنان، والجفاء بالوفاء.
” الرضا بالعذاب والتسليم المقدس”
“رضينا عذابنا في حبك.. حرام تتناسى ريدتنا”
تختتم القصيدة بإعلان الرضا الكامل بالعذاب، وهو أعلى مراتب الحب الصوفي. كلمة “رضينا” تحمل معنى التسليم الطوعي والقبول الواعي لكل ما يأتي من المحبوب.
” السحر الموسيقي لإبراهيم حسين وإبداع عصام محمد نور”
لا يمكن الحديث عن هذه القصيدة دون الإشادة بالأداء الاستثنائي للفنان إبراهيم حسين، الذي تمكن بصوته الدافئ وتقنياته الغنائية المتقنة من تحويل النص الشعري إلى لحن يتردد في أعماق الروح. صوته الذي يتراوح بين الحنان والحسرة، بين القوة والرقة، جعل من كل كلمة في القصيدة كائناً حياً ينبض بالمشاعر.
ولعل أبرز من أدى هذه التحفة الغنائية من بعد إبراهيم حسين، وأبدع في تقديمها بأسلوبه المتميز، هو الفنان الكبير عصام محمد نور، الذي استطاع بصوته الشجي وحساسيته الفنية العالية أن يضفي على الأغنية بُعداً جديداً، محافظاً على روحها الأصيلة مع إضافة لمسته الفنية المميزة التي تُظهر قدرته على التعامل مع التراث الغنائي السوداني بمهارة واقتدار.
لحن الأغنية يتماهى مع المعنى بطريقة سحرية، حيث نجد الألحان الحزينة تصاحب مقاطع الشكوى، والألحان الرقيقة تواكب لحظات الضراعة والاستجداء. التوزيع الموسيقي يعكس الثراء الثقافي السوداني، ممزوجاً بحساسية موسيقية عالية تخدم النص وتُبرز جمالياته.
” تحفة خالدة في سماء الإبداع”
“خلاص يا قلبي كان خاصم” ليست مجرد قصيدة غنائية، بل منظومة فلسفية متكاملة تتناول أعمق تجارب الإنسان العاطفية. إنها دراسة نفسية عميقة لطبيعة الحب المعذِّب، ورحلة روحية في عوالم القلب البشري المعقدة.
الشاعر محمد عثمان كجراي نجح في خلق نص يتجاوز حدود الزمان والمكان، يتحدث إلى كل قلب عرف طعم الحب والهجران، والفنان إبراهيم حسين أضاف إليها من روحه ما جعلها تحلق في سماء الخلود، لتبقى شاهداً على عبقرية الإبداع السوداني وثرائه الإنساني اللامحدود.

زر الذهاب إلى الأعلى