رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

الانصرافي: من ثائر مزعوم إلى أداة في يد الحركة الإسلامية”

بقلم : معاوية أبو الريش
في خضم الأحداث المتلاطمة التي شهدتها الساحة السودانية عقب ثورة ديسمبر المجيدة، برزت شخصيات عديدة على المشهد السياسي والإعلامي. لكن قلة منها استطاعت أن تحظى بالاهتمام والجدل الذي أثارته شخصية محمد محمود السماني، المعروف بلقب “الانصرافي”. هذه الشخصية الغامضة التي تحدثت من وراء حجاب، واستطاعت أن تستقطب أعداداً هائلة من المتابعين والمؤيدين، خاصة من فئة الشباب الذين كانوا وقود الثورة السودانية.
” جذور الانصرافي ودوافعه الخفية”
تعود قصة “الانصرافي” إلى جذور عائلية مرتبطة بالحركة الإسلامية في السودان، حيث كان والده، محمود السماني، عضواً قيادياً بارزاً في الحركة وضمن مجلسها الأربعيني. غير أن علاقة الأب بالحركة شهدت انعطافة حادة حين اتُهم في قضية فساد تتعلق بسيارات أعضاء البرلمان السوداني، الأمر الذي أدى إلى طرده من الحزب وإقصائه من المشهد السياسي.
هذه الواقعة شكّلت منعطفاً في حياة نجله محمد، الذي حمل في داخله رغبة دفينة في الانتقام لوالده. وحين اندلعت ثورة ديسمبر ضد نظام البشير وحزب المؤتمر الوطني، وجد “الانصرافي” فرصته السانحة للانضمام إلى ركب الثورة، متخذاً موقفاً معادياً للحركة الإسلامية التي نبذت والده.
” استقطاب مدروس وتحول مفاجئ”
في خضم هذه الأحداث، أدركت قيادات الحركة الإسلامية أن الشباب السوداني هو المحرك الرئيسي للثورة، وأن استمالة هذه الشريحة بات ضرورة ملحة للبقاء في المشهد السياسي. وهنا تجلّت براعة الحركة في توظيف الأدوات المناسبة لتحقيق غاياتها، فوجدت في شخصية “الانصرافي” ضالتها المنشودة.
باستخدام المال والدعم اللوجستي، استطاعت الحركة الإسلامية تطويع خطاب “الانصرافي” واستمالته لخدمة أجندتها. تحول هذا الشاب من معارض ظاهري للحركة إلى أداة فعّالة في يدها، يخاطب الشباب بلغتهم ويستميلهم بأسلوبه الجريء والصريح، مستغلاً سخطهم على الأوضاع المتردية في البلاد.
“أسلوب صادم وشعبية جارفة”
اتسم خطاب “الانصرافي” بالجرأة المفرطة والبذاءة اللفظية التي لم يسلم منها أحد، حتى أعلى الرموز السياسية والعسكرية في البلاد. هذا الأسلوب الصادم، الذي غلّفه بمظهر الوطنية الصادقة والغيرة على مصالح الشعب، أكسبه شعبية جارفة بين قطاعات واسعة من الشباب السوداني.
حققت “لايفات” الانصرافي وأحاديثه المسجلة نسب مشاهدة غير مسبوقة، وصلت إلى أرقام فلكية، الأمر الذي عزز من تأثيره في الساحة السياسية وجعله ظاهرة إعلامية فريدة. لكن السؤال الذي ظل يؤرق الكثيرين: لماذا يصر هذا الشخص على إخفاء هويته الحقيقية والظهور من وراء حجاب؟
” الهدف الحقيقي: تغيير مسار الثورة”
لم يكن الهدف الحقيقي من وراء إنشاء شخصية “الانصرافي” ودعمها سوى تحقيق تحول جذري في مواقف الشباب السوداني، الذين كانوا يمثلون القوة الضاربة للثورة. فبفضل خطابه المؤثر، استطاع “الانصرافي” تحييد العديد منهم وتوجيههم نحو دعم المؤسسة العسكرية التي تسيطر عليها في الواقع قيادات الصف الأول من الحركة الإسلامية، بدلاً من مناصرة القوى المدنية.
نجحت هذه الاستراتيجية إلى حد كبير، حيث شهدت الساحة السودانية تحولاً ملحوظاً في مواقف شريحة واسعة من الشباب، الذين باتوا أكثر تشككاً في القوى المدنية وأكثر تقبلاً لسيطرة المؤسسة العسكرية على مقاليد الحكم.
” العلاقة المتوترة مع البرهان وكشف الأوراق”
الملفت في قصة “الانصرافي” هو تلك العلاقة المتوترة التي نشأت بينه وبين قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، حينما توترت العلاقة بين الأخير وقيادات الحركة الإسلامية. هذا التوتر كشف، بشكل غير مباشر، عن الجهة الحقيقية التي تقف خلف هذه الشخصية الإعلامية المثيرة للجدل.
حين هاجم “الانصرافي” البرهان بلسانه اللاذع، كشف – دون أن يقصد – عن حقيقة ارتباطه بالحركة الإسلامية وتوجيهه من قبلها. فالخطاب الذي يوجهه لم يكن سوى انعكاس لمواقف قيادات الحركة وتوجهاتها، مما يؤكد فرضية أنه مجرد أداة في أيديهم لتحقيق أهدافهم السياسية.
” خاتمة: درس في توظيف الإعلام الجديد”
تمثل قصة “الانصرافي” درساً بليغاً في كيفية توظيف وسائل الإعلام الجديد ومنصات التواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام وتوجيهه. فقد استطاعت الحركة الإسلامية، من خلال هذه الشخصية المصطنعة، أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه عبر قنواتها التقليدية.
لقد نجحت في استقطاب شريحة واسعة من الشباب السوداني، الذين كانوا بالأمس القريب في صفوف معارضيها، وتحويلهم إلى داعمين – ولو بشكل غير مباشر – لمشروعها السياسي. إنها استراتيجية ماكرة، تكشف عن قدرة فائقة على التكيف مع المتغيرات والاستفادة من الأدوات الجديدة في الصراع على السلطة والنفوذ.
إن قصة “الانصرافي” تذكرنا بأهمية الوعي والحذر في التعامل مع الخطابات الإعلامية، خاصة تلك التي تتسم بالغموض وتخفي وراءها أجندات سياسية غير معلنة. فخلف الشعارات الوطنية الرنانة واللغة الحماسية، قد تكمن مصالح فئوية ضيقة تسعى للهيمنة على المشهد السياسي وإعادة إنتاج أنظمة الاستبداد بأثواب جديدة.

زر الذهاب إلى الأعلى