رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

” القشة التي قصمت ظهر النظام: عندما فاض الكيل بالشعب السوداني”

بقلم : المستشار معاوية أبوالريش

“حكمة المثل العربي”

في التراث العربي مثل شهير يقول: “القشة التي قصمت ظهر البعير”، وهو مثل يحمل في طياته حكمة عميقة عن طبيعة الضغوط المتراكمة وكيف أن أبسط الأشياء قد تكون الشرارة التي تشعل النار في الهشيم.
تحكي القصة عن رجل أثقل جمله بحمولة تفوق طاقته، وعندما وضع قشة صغيرة فوق الحمل الثقيل، انهار الجمل تماماً. لم تكن القشة هي السبب الحقيقي، بل كانت مجرد القطرة الأخيرة التي أفاضت الكأس بعد معاناة طويلة.
“الحمل الثقيل: ثلاثة عقود من الاستبداد”
على مدى ثلاثة عقود كاملة، حمّل نظام الإنقاذ بقيادة عمر البشير وحزب المؤتمر الوطني الشعب السوداني أحمالاً فاقت طاقة البشر. كان هذا النظام يضع على كاهل السودانيين، يوماً بعد يوم، أوزاناً جديدة من الظلم والفساد:
” الفساد المنهجي ونهب الثروات”
تحولت مؤسسات الدولة إلى أدوات لنهب ثروات البلاد، حيث سيطرت شبكات الفساد على القطاعات الحيوية. استُنزفت الموارد الطبيعية الهائلة للسودان، من النفط إلى الذهب، لتصب في جيوب فئة قليلة، بينما عاش الشعب في فقر مدقع.
” القمع السياسي وبيوت الأشباح”
أسس النظام آلة قمع وحشية، شملت السجون والمعتقلات وما يُعرف بـ”بيوت الأشباح”، حيث تعرض المعارضون للتعذيب والقتل. كانت هذه المؤسسات رمزاً لاستبداد لا يرحم، يسحق كل من يجرؤ على رفع صوته.
” الحروب والنزاعات”
أشعل النظام حروباً طاحنة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، مما أدى إلى نزوح الملايين وسقوط مئات الآلاف من الضحايا. كانت هذه الحروب تخدم أجندة سياسية ضيقة على حساب وحدة البلاد واستقرارها.
” الأزمة الاقتصادية والمعيشية”
تدهورت الأوضاع الاقتصادية بشكل مأساوي، حيث ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وانخفضت قيمة العملة، وتفشت البطالة. أصبح الحصول على الضروريات الأساسية كالخبز والوقود والدواء معاناة يومية لملايين السودانيين.
” القشة الأخيرة: ارتفاع أسعار الخبز”
في ديسمبر 2018، جاءت القشة التي قصمت ظهر النظام في شكل قرار رفع أسعار الخبز. لم تكن هذه الزيادة، في حد ذاتها، أمراً استثنائياً في تاريخ النظام، لكنها كانت القطرة الأخيرة في كأس فاض منذ زمن.
خرج الشعب السوداني، في مدينة عطبرة أولاً ثم في بقية أنحاء البلاد، في مظاهرات عارمة لم تكن تطالب فقط بإلغاء زيادة الأسعار، بل بإسقاط النظام بأكمله. كان شعار “تسقط بس” يلخص حالة الغضب المتراكم عبر عقود من الظلم والاستبداد.
” دروس من التاريخ: عندما يفقد الحاكم شرعيته”
ما حدث في السودان يؤكد حقيقة تاريخية مهمة: أن الأنظمة الاستبدادية، مهما بدت قوية ومتماسكة، تحمل في طياتها بذور فنائها. عندما تفقد هذه الأنظمة شرعيتها الشعبية وتعتمد على القوة والقمع فقط، تصبح أي حادثة بسيطة قادرة على إشعال ثورة شعبية.
النظام الذي ظن أنه يستطيع أن يحمّل الشعب السوداني ما لا يطاق، اكتشف أن هناك حدوداً لا يمكن تجاوزها. الشعب الذي صبر طويلاً على الظلم والفساد، وجد في قضية الخبز رمزاً لكل معاناته، فانتفض انتفاضة تاريخية.
” عودة الأشباح: محاولة استعادة السيطرة”
بعد سقوط نظام البشير في أبريل 2019، ظن كثيرون أن صفحة الاستبداد قد طُويت إلى الأبد. لكن التاريخ علمنا أن قوى الظلام لا تستسلم بسهولة. إذ سرعان ما التفت بقايا الحركة الإسلامية والنظام البائد على ثورة ديسمبر المجيدة، مستغلين نفوذهم المتجذر في مؤسسات الدولة، وخاصة في الجيش والأجهزة الأمنية.
قادة عسكريون وجنرالات يدينون بالولاء للنظام المنهار وضعوا العراقيل تلو العراقيل أمام حكومة الثورة المدنية بقيادة الدكتور عبدالله حمدوك. وعندما فشلت محاولاتهم في تقويض الحكومة الانتقالية من الداخل، لجأوا إلى الحل الذي يعرفونه جيداً: الانقلاب العسكري في أكتوبر 2021.
عاد فلول النظام البائد إلى الواجهة مرة أخرى، حاملين معهم نفس العقلية الاستبدادية والممارسات الفاسدة. لكن هذه المرة، وكأنهم ينتقمون من الشعب الذي أطاح بهم من سدة الحكم، أشعلوا فتيل حرب مدمرة أودت بحياة عشرات الآلاف من الأبرياء، وجرحت مئات الآلاف، وشردت الملايين من السودانيين داخل وخارج بلادهم.
” قوة الشعوب لا تُقهر”
تعلمنا ثورة ديسمبر السودانية المجيدة أن الشعوب، مهما طال صبرها، لها حدود لا يمكن تجاوزها. وأن الظالم، مهما تجبر واستكبر، سيأتي يوم يدفع فيه ثمن ظلمه.
القشة التي قصمت ظهر النظام في السودان لم تكن مجرد زيادة في أسعار الخبز، بل كانت رمزاً لكل الأحمال الثقيلة التي وضعها النظام على كاهل شعبه. وعندما فاض الكيل، لم تعد هناك قوة في الأرض تستطيع أن توقف إرادة الشعب في التغيير.
اليوم، رغم المحن والمآسي التي يعيشها السودان والسودانيين ، تبقى الحقيقة الأزلية راسخة: الشعب الذي أطاح بالطاغية مرة، قادر على أن يطيح به مرة أخرى. فالتاريخ يعيد نفسه، وقوى الظلام مهما تجددت أشكالها وأساليبها، تبقى عاجزة أمام إرادة الشعوب في الحرية والكرامة.
لا يزال الشعب السوداني يناضل من أجل تحقيق أهداف ثورته في الحرية والسلام والعدالة. وتبقى ثورة ديسمبر شاهداً على أن الشعوب لا تُقهر، وأن الظلم مهما طال وتجدد، لا بد له من نهاية.

زر الذهاب إلى الأعلى