رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

الحسد عرض لا مرض: تعقيبٌ على مقال الصديق المستشار القانوني معاوية أبو الريش

بقلم : المستشار أحمد التجاني دلدوم الختيم
🚦كتب الأخ معاوية مقالاً مؤثراً عن واقعنا السوداني، متناولاً ظاهرة الحسد كمرض اجتماعي تسلل إلى مفاصل الحياة السودانية، من الأسرة حتى السياسة، ومن الاقتصاد حتى الرياضة. ولا شك أن معاوية قد التقط وجعاً حقيقياً، وأن مقاله ينطلق من غيرة صادقة على الوطن وأهله. لكن لعلنا نختلف برفق في موضع الداء الحقيقي، لا في وصف أعراضه.
🚦صحيح أن الحسد موجود، وأن الغيرة قد تتحول من محفّز للمنافسة إلى مطرقة تهدم جسور العلاقات لكنّ السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه:
هل الحسد سبب الخراب،
أم هو إحدى نتائجه؟
🚦بين الخارج والداخل ، أي بيئة تزرع الحسد؟ :
أورد الكاتب المفارقة التي كثيراً ما تؤلمنا :
كيف ينجح السودانيون في الخارج ويخفقون في وطنهم؟
كيف تُزهر قيم الأمانة والإخلاص والتعاون حين نغادر بلادنا، وتذبل حين نعود إليها؟
والجواب لا يكمن في النية ولا في القلوب بل في البيئة الحاضنة.
في الخارج، ثمة أنظمة تضمن العدالة النسبية، تكافؤ الفرص، القوانين التي تنصف لا تمكن، التعليم الذي يبني لا يُهمّش، والرعاية التي تحترم الإنسان لا تهينه ،
النجاح هناك لا ينظر إليه كخصم من رصيدك، بل كمصدر إلهام لك ، أما في الداخل، فالأنظمة فاشلة، الفرص نادرة، والعدالة مفقودة، فيصبح نجاح أي فرد تهديداً للآخر، ويصبح التنافس صفراً كبيراً لا ينتصر فيه إلا بالدهاء أو الولاء، لا بالاجتهاد.
🚦العطب في البنية لا في النفوس :
الحسد ليس مرضاً شخصياً بقدر ما هو مؤشر على خلل اجتماعي.
حين تُفكك دولة التعليم، وتختطف مؤسسات العدالة، وتُربى الأجيال على شعور دائم بالنقص والتهميش، فمن الطبيعي أن تتكاثر المشاعر السلبية، وأن يتمترس الناس خلف حساسياتهم الجهوية والطبقية والطائفية، لا حباً فيها بل خوفاً من الضياع في نظام لا يحميهم.
المشكلة في دولة لا تطمئنك إن مرضت،
ولا تنصفك إن ظلمت،
ولا تكافئك إن اجتهدت ،
فهل نلوم الناس على الحسد،
أم نلوم من سرق منهم شعور الأمان؟
🚦النساء لا يحسدن ، بل يقصين :
في مقطع المقال الذي تحدث عن النساء، كان يمكن للطرح أن يكون أعمق وأعدل ،
التنافس بين النساء في مجتمعاتنا ليس بسبب الغيرة على الزينة والمظاهر، بل لأنه مجتمع يقصي المرأة من مواقع التأثير الحقيقي، ويترك لها الهامش لتتنافس فيه على الفُتات.
لو كانت فرص النساء في التعليم، والصحة، والتمثيل السياسي، والعمل اللائق متساوية،
لما وُجدت هذه التوترات.
إن الإنصاف لا يختزل في أخلاق الأفراد،
بل يبنى في المؤسسات .
🚦السياسة : الحسد أم غياب المشروع الوطني؟
وفي السياسة، لا اختلف مع معاوية في كونها باتت ساحة صراع مدمر ، لكن الحسد ليس هو المحرك الأهم لهذا الصراع، بل غياب المشروع الوطني، وانعدام الثقة، وثقافة الإقصاء.
منذ الاستقلال، ظل السودان يُحكم باسم (نحن) ضد (هم) حتى استحال البلد فسيفساء من المظالم المتراكمة.
فلا عجب أن يتصارع السياسيون على السلطة، إذ لا توجد مؤسسات تفصل بين الدولة والحكومة، بين المصلحة العامة ومصلحة الحزب.
لذا، فإن الإصلاح لا يكون بالدعوة للترفّع الأخلاقي وحده، بل بخلق بيئة سياسية تُجبر الجميع على الحوار، وتمنع التفرد والاحتكار، وتكافئ التوافق لا التنازع .
🚦في الاقتصاد والرياضة: السوق المنفلت يقتل القيم
أما في الاقتصاد، فإن الجشع والاستغلال ليسا انحرافاً فردياً بقدر ما هما نتيجة لانعدام الضوابط، وتواطؤ الدولة، وغياب الرقابة المجتمعية.
حين يتوحش السوق، وتنهار الأخلاق العامة، وتتراجع هيبة القانون، يصبح التاجر الناجح هو الأقدر على التخزين والاحتيال، لا الإنتاج والخدمة.
وفي الرياضة، نحن بحاجة لثقافة وطنية جديدة تعيد تعريف (الفوز) على أنه انتصار للبلد لا للنادي .
🚦عن اللامبالاة والخراب الذي صار اعتياداً :
ربما أكثر ما آلمني في مقال معاوية هو توصيفه الدقيق للامبالاة.
نعم، صرنا نعيش الكارثة وكأنها خبر عابر،
والدم كأنه لون من ألوان الشاشة.
لكن هذه اللامبالاة ليست قسوة قلب،
بل إرهاق روح ،
شعب طحنته الحروب،
أنهكته النزوحات،
وكذبت عليه نخب كثيرة، حتى بات عاجزاً عن الإحساس، لا لأن الإحساس مات، بل لأن الواقع أثقل من القدرة على تحمله.
🚦إذن ما الحل؟ :
لا يكفي أن نقول للناس توبوا من الحسد!
بل لا بد أن نقول للدولة أصلحوا ما يولد الحسد.
ولا يكفي أن نلوم المجتمع، بل علينا أن نعيد بناء الدولة بما يلي :
1/ بناء مؤسسات قوية ، قضاء مستقل، إدارة محايدة، قانون لا يشترى ولا يخترق.
2/ عدالة اجتماعية حقيقية وتوزيع عادل للفرص، تنمية متوازنة بين الأطراف والمركز.
3/ إعلام مسؤول لا يغذي الفرقة، ولا يُسطِّح القضايا .
4/ إصلاح التعليم والتربية لتكون تربية على الانتماء والمواطنة لا على التنافس الأجوف.
5/ مشروع وطني جامع يستوعب الجميع، ويجعل من التنوع مصدر قوة لا فتنة.
🚦خروج :
نعم، نحن بحاجة لتوبة لكن توبة المجتمع وحدها لا تكفي إن لم يتب النظام السياسي من خطاياه.
نحتاج أن نصحو، لا فقط على وقع الآيات،
بل على صوت المصلحة المشتركة، وعلى شعور بالمسؤولية الجماعية.
فالشعب السوداني ليس شريراً بطبعه،
ولا حسوداً بجيناته، بل هو فقط مقهور في بلد لا يكافئ الإخلاص، ولا يعترف بالاستحقاق.
فلنبدأ بإصلاح البنية ، ليتنفس الإنسان السوداني هواء نقياً ليصبح شخص سوي ..

زر الذهاب إلى الأعلى