
بقلم : المستشار معاوية أبوالريش
في مشهد يعكس مفارقة صارخة، خاطب الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية في إشبيلية، مطالباً بإصلاح النظام المالي العالمي وداعياً إلى شراكة دولية عادلة، بينما يتجاهل الواقع المرير للفساد المستشري في الدولة السودانية التي يترأسها. وفي خطابه، زعم البرهان أن السودان خطا خطوات مهمة في مسار الانتقال المدني من خلال تعيين رئيس وزراء مدني يعكس الإرادة الوطنية، لكن الحقائق تكشف خلاف ذلك تماماً.
إن تعيين السيد كامل إدريس كرئيس لمجلس الوزراء جاء عبر اختيار مباشر من قبل فلول النظام البائد وحزب المؤتمر الوطني المحلول، ولم يأت هذا التعيين عبر صناديق الاقتراع أو أي آلية ديمقراطية حقيقية تعكس الإرادة الشعبية. بل إن رئيس الوزراء فشل حتى اللحظة في استكمال مؤسسات الحكم وتشكيل حكومته بسبب الصراعات والخلافات حول توزيع السلطة والحقائب الوزارية، مما يكشف أن هذا الانتقال المدني المزعوم ما هو إلا إعادة تدوير لنفس الوجوه والممارسات القديمة.
وفي مفارقة أخرى، طالب البرهان بإصلاح شامل للمؤسسات المالية الدولية، متناسياً أن الدولة السودانية نفسها غارقة في الفساد المنهجي وهي الأولى بالإصلاح. فطوال سنوات حكم المؤتمر الوطني المحلول، ابتلع قادة الحزب كل الدعم المالي المقدم من المؤسسات الدولية، وتلك الأموال والمساعدات لم تُوجه إلى مشاريع التنمية، بل دخلت جيوب كبار المسؤولين. والأمر الأكثر إثارة للغضب أن هذا الفساد امتد حتى إلى المساعدات الإنسانية التي تقدمها المنظمات الدولية للشعب السوداني المتضرر، حيث لا تصل هذه المساعدات إلى مستحقيها، بل يقوم بعض المتنفذين ببيعها للتجار، وتظهر هذه المواد الإغاثية في الأسواق للبيع وعليها وسم وعلامات المنظمات الدولية المانحة دون أدنى حياء أو خجل، في مشهد يكشف عمق الأزمة الأخلاقية والإدارية في النظام الحاكم. ونفس الشبكات الفاسدة ما زالت تسيطر على مفاصل الدولة حتى اليوم.
والسؤال المحوري هنا: كيف يمكن لمن يقود نظاماً يعاني من الفساد المستشري أن يطالب العالم بالإصلاح؟ وكيف يمكن الحديث عن الإرادة الوطنية بينما يتم تهميش الشعب السوداني وإقصاؤه من عملية صنع القرار؟ إن هذا التناقض الصارخ يكشف حقيقة أن خطاب البرهان في إشبيلية ما هو إلا محاولة يائسة للحصول على الشرعية الدولية والدعم المالي، دون استعداد حقيقي للإصلاح الداخلي أو التغيير الجذري.
فبدلاً من البحث عن الشرعية في المحافل الدولية، كان الأولى العمل على إصلاح البيت من الداخل ومحاربة الفساد بجدية، وإشراك الشعب السوداني في اختيار قيادته عبر انتخابات حرة ونزيهة، ووضع آليات شفافة لاستخدام المساعدات الدولية وضمان وصولها لمستحقيها، وبناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية بدلاً من إعادة تدوير النظام القديم.
إن المطالبة بإصلاح العالم بينما نرفض إصلاح أنفسنا ليس سوى استمرار لنفس الممارسات القديمة تحت شعارات جديدة. والشعب السوداني يستحق أكثر من الخطابات الرنانة والوعود الجوفاء، يستحق قيادة حقيقية تعكس إرادته وتعمل من أجل مصالحه، وليس من أجل البقاء في السلطة.