رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

عين علي الحرب – الجميل_الفاضل : بين الثورة والحرب (4)

لم ينس وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ما تناساه أو تغافل عنه البرهان ورفاقه من جنرالات ما عرف بالمكون العسكري في مجلس السيادة، فقد ذكر بلينكن العالم برمته أول أمس الخميس، عبر جلسة لمجلس الأمن الدولي، بذكري ثورة ديسمبر المباركة، التي صعد بفضلها خمسة جنرالات مغمورين، زعموا زيفا وإحتيالا، انحيازهم للثورة، للمشاركة لأول مرة في الحكم، فقد نبه الوزير الأمريكي أرفع مؤسسة دولية الي الصورة القاتمة، والمفارقة الهائلة بين تطلعات وآمال الأمس، وواقع اليوم الكارثي والمأساوي، قائلا: (قد انتفض الشعب السوداني منذ ست سنوات، وبالتحديد يوم 19 ديسمبر 2018، لإسقاط دكتاتوره، واستعادة مستقبله.
فمن يستطيع أن ينسى الصورة الأيقونية لكنداكة الثورة السودانية آلاء صلاح، أثناء وقوفها على سطح سيارة وهي تقود أمتها نحو سبيل جديد؟.
لقد وصف طالب متظاهر تلك الفترة بالقول: “كنا نبتسم وملامح الحرية تبدو على وجوهنا”.
ولكن بعد ست سنوات، ها نحن نرى عدد كبيرًا من السودانيين يواجهون الجوع واليأس).
وقد حمل بلينكن مغبة ما بلغته أوضاع البلاد، لإنقلاب الجنرال البرهان في أكتوبر من العام (21)، ولحرب الجيش والدعم السريع من بعد في أبريل من العام (23)، قائلا: (لقد خرجت العملية الإنتقالية السودانية نحو الديمقراطية عن سكتها، بفعل الإستيلاء العسكري في العام 2021، والقتال الوحشي الذي نشب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في العام 2023، لتنبثق عن ذلك أسوأ أزمة إنسانية في العالم).
وبالطبع ليس مستغربا التفات وإشارة بلينكن الخميس الماضي، الي ثورة كانت مصدر إلهام للعالم برمته، الي حد أن أجبرت الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه علي تثمين شجاعة النساء السودانيات، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل نحو ثلاثة أعوام قائلا: ”إنه يعيش في السودان النساء الشجاعات، اللواتي تصدين للعنف والقهر، لكي يُخلع دكتاتور الإبادة الجماعية من منصبه، واللواتي يواصلن العمل يوميًا للدفاع عن التقدم الديمقراطي”.
ومضي بايدن عطفا علي دور المرأة السودانية في ثورة ديسمبر المباركة، داعيا للمدافعة عن حقوق النساء والفتيات في العالم كله، لأجل استخدام مواهبهن كاملة، في المساهمة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، مع السعي الجاد لتحقيق أحلامهن بعيدًا عن العنف والتهديد.
عموما فقد إجترح الديسمبريون قبل نحو ست سنوات بسلميتهم الباهرة، معجزةً لا مثيل لها في عصرٍ أضحى فيه الحصول على السلاح أيسرَ من الحصول على شربة ماء.
فقد اختبرت الأقدار بعضاً من ثوار ديسمبر، يوم أن انقلبت سيارة “التاتشر” بأم درمان فسقط بين براثنهم بشارع الشهيد عبد العظيم “الأربعين سابقاً”، أحد جنود السيارة المعطوبة الذي أصابه ما يُشبه الذّهول بعد أن أسلم أمره وتهيأ لأسوأ الأقدار من قول أحدهم: “قوم يا ود الخالة نحن اخوانك يا بليد، قوم الحق ناسك”.
إنها “السلمية” علي أية حال.. تلك الكلمة السحرية وراء نجاح ثورة 19 ديسمبر المباركة.
“السلمية” التي جسّدها والتزم حدّها بصرامة هذا الجيلُ الشاب من السودان بفتيانه وفتياته.
لقد كانوا “هابيليون” بمعنى الكلمة التي وثّق لها القرآن الكريم بقول هابيل لأخاه قابيل “لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك”..
لقد نصّب هذا الجيل الفريد شعب السودان من جديد، مُعلماً لشعوب الأرض قاطبة.
حتي صار السودانيون علي كل لسان مضربا للمثل لدي كافة الناس.
أنظُر علي ماذا اتكأ الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون في نصحه لذوي السترات الصفراء الذين انخرطوا في ممارسات تخريبية بباريس.. فقد قال لهم: “انظروا إلى الثورة السودانية وسِلميّتها، هذه الثورة التي شارَك فيها أكثر من (5) ملايين معتصم، لم نر منهم عنفاً أو مُمارسات غير أخلاقية، فيجب أن نعي جميعاً الدرس السوداني، بأن مؤسسات الدولة هي ملكٌ للشعب”.
بل أن شهادة وزير خارجيته آنذاك جان إيف لودريان لثوار ديسمبر تعكس إعجابا منقطع النظير وهو يقول لهم: “لقد كان تصميمكم مدهشاً وأنتم تسعون من أجل الحرية وتتفادون كل مُنزلقات العنف، لقد تابعنا برعُب وغضب استخدام العنف ضد الثوار، وتابعنا بإعجاب تحلِّيكم بالنضج والمسئولية والهدوء في ظرفِ قمعٍ عنيف”.
ومن أرض الثورة، وشوارعها، وميادينها، سجل سفير دولة السويد بالخرطوم هانس هينريك ليندكويست إعترافا نادرا قال فيه: “الثورة السودانية تجربة فريدة، ومن الصعب أن نقارنها بما حدث في أي مكان آخر من العالم”.
لقد اندهش كبار العالم من أناس ظلوا يتصرفون بشكل طبيعي جدا، وكما ينبغي، في واقعٍ غير طبيعيٍّ بالمرة، أناس أحتفظوا بعقولهم حارة، وفاعلة، ومتوازنة، وسط جنون مطلق لكتائب غامضة، وتاتشرات معربدة، تدهس حتى الأطفال على أسرّة نومهم ولا تستثني أحداً في أيام كوابيس الخرطوم تلك.
المهم فقد أكدت ثورة ديسمبر نجاعة سلاح السودانيين المجرب علي مدي التاريخ، “سلاح السلمية” في هزيمة كل مكر وشر.

زر الذهاب إلى الأعلى