الأعمدة

مستقبل السودان .. ورباعية .. ( التجهيل ..والتعالي.. والقوة ..والتقسيم)

الحاضر في حركة الحياة يظل حلقة هلامية تربط بين الماضي والمستقبل وذلك بمقاييس أحداثه التي تتمثل فيها قراءة ما يمكن أن يستجد كنتاج لهذا الواقع الماثل أو ذاك .
والحروب مثلما هي ومنذ منذ الازل لها من الأضرار الماحقة والساحقة في بنية الحياة الإنسانية والمادية كمنتوج سلبي يصنعه الإنسان بيديه مهما كان منتصرا أو مهزوما ..
فإنها بالمقابل قد تخلف في جانبها الإيجابي إذا ما استشعر الإنسان مرارة جراحاتها واستوعب الحصيلة الإيجابية من دروسها ما يقيم عليه حضارات ذات أثر في تطور حياة البشرية .
ولعل النهضة التي انتظمت رقعة واسعة من القارة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية وفي زمن قياسي وقصير نسبيا إذ كانت المثال الحي لما أوردناه عاليه من حيث إيجابية استيعاب الدروس والاستفادة من الضربات الموجعة في تقوية الرأس واستقامة الجسد لااستسلاما لمضاضة الاوجاع .
ولعل المسافة الزمنية القصيرة الفاصلة بين خروج أروبا من تحت أنقاض تلك الحرب التي جعلت بناها التحتية اثرا بعد عين وكلفتها ملايين الارواح ولكنها نفضت عنها الغبار لتنهض بهذا المستوى المذهل في كل شي.
و كل ذلك كان قريبا من تاريخ نيل السودان لاستقلاله بالنظر الى ما آلت إليه حالتنا السودانية من التردي السياسي و التراجع الاقتصادي و النكوص الديمقراطي وعدم التماسك الاجتماعي الجهوي والاثني وكله استذكار لابد أن يجعلنا نعيد التفكير مائة مرة دون استحياء ولا مواربة من الاعتراف بفشلنا الذريع في جعل ذلك الاستقلال حافزا و مكسبا للبناء لا معولا لهدم حتى الذي تركه المستعمر من حيث الكم أو الكيف !
ولكن لا زال هناك المتسع من الفرص وان كانت متأخرة بعد أن نخرج ببقايا اسمال سترنا الوطني من لهيب هذا الاتون والاقتتال المخجل الذي لم ينفصل حاضره عن ماضيه ولن يقوم دونه اي صرح منيع لمستقبل بلادنا ألا بعد وضع الحاصل في مجهر التحليل الدقيق وعلى طاولة حوار المكاشفة الشفاف .
فمثلما يجب أن نحمل الأجيال القديمة التي حققت لنا استقلالا سهلا نوعا ما و لكنهم تركوا لنا علمه فوق سارية هشة ظلت تهتز بتدافع الاحن و تكالب المحن ولم نسعى نحن من بعدهم لتعميق وتثبيت اساساتها لتصمد ظلالها طويلة لتستوعب رحابتها من ياتوا من بعدنا من الأجيال الشابة الحالية واللاحقة.
لذا فإن أجيالنا نحن الكهول و التي استلمت الراية من اولئك الشيوخ السلف لا يمكن نعتها بأنها كانت خير خلف.
و لابد أن تواتينا الشجاعة القصوى لنعترف للتاريخ بأننا لسنا ابرياء مما أصاب راية بلادنا بالصورة التي نراها تحترق الان وقد صار القلم فينا عند الجهلاء و المال في حوزة البخلاء و السيف في يد الجبناء.
ولم ننتبه رغم كل ماحاق بنا من تخلف إلى ذلك القعود المؤسف عبر توفر كل مقومات اللحاق بمن سبقونا في مضمار الركض نحو الرقي العلمي والتطور التفني و الاكتفاء الذاتي استغلالا لموارد ثرة تتلمظ لها كبريات الدول وتحسدنا عليها دول الجوار ولا تستحي من أن تتمناها لذاتها .
وإذا كنا لازلنا وسنظل حبسين مابين جدران تجهيل الطائفية السياسية التي كانت ولازالت إلى حد كبير تتمترس فيها الأحزاب التقليدية ضمانا لديمومة نفوذها الديني والسياسي والاقتصادي والمناطقي و بين تعالي الأحزاب الحداثية التي اعتمدت الطبقية الفكرية اليسارية والقومية البعيدة عن متناول الاستيعاب الشعبي بسلاسة التعاطي دون أن تنتشل الشباب برفق من ربقة تلك التبعية المتوارثة .
بل ان أحزاب الحداثة المفترض فيها تبني سلاح الوعي وبعد أن جرب بعضها بلوغ سدة الحكم بالقوة العسكرية وفشل.
فإنها عوضا عن خلع عباءة ذلك التعالي قد دفعت تلقائيا بمن أفلت من تلك القبضة الطائفية المتوارثة الإحكام إلى الوقوع في شراك التنطع السياسي الديني الذي يتخذ من العنف وسيلة لتطويع وتركيع العقول وغسلها بدفقات الترهيب العقائدي أما بالجهاد الدموي المدني أو تغلغلا في الموسسة العسكرية ومن ثم اضعافها هي الاخرى بأجسام مسلحة موازية سعت حثيثا ولا زالت تعلي من شأن التنظيم وحزب النظام الحاكم إلى زمن ليس ببعيد فوق هامة الوطن وهو من العوامل التي أوصلنا الحلم باستعادة ماضي سطوتها بشتى الوسايل مع صراع الاستقطاب المقابل بالقدر الذي افضى إلى حالة الاحتراب القذرة الحالية تنازعا حول مبتغيات كان الشأن الوطني الخالص في ذيل قائمتها أن لم يكن خارجها بالمرة !
وقد نجم عن كل ذلك الاستقطاب التاريخي والحالي المتركز حول الصراع على السلطة في المراكز الحضرية.. أن شعرت الأطراف والتخوم البعيدة بالشلل التنموي يدب فيها مما هيا للسلاح أن يكون الوسيلة الاضطرارية في محاولة إنتزاع الحقوق وسعيا لأختصار مسافة التهميش ولو على جسور من الحرائق التي فصلت جزءا من البلاد بدلا عن أن تؤدي إلى تقوية وصله !
الان فإن هذا الوطن المشتعل بهذا الصراع الدامي يعيش حقيقة مرحلة مفصلية ستكون نتيجتها لامحالة واحدة من اثنتين لاثالثة لهما .
اما ان نخرج منها متوحدي الشعور الوطني الإختياري الحر الحافظ لوحدة ما تبقى من هذا التراب العزيز وأما قبول فرض التقسيم الحتمي باذلال واستسلام.
و الذي بدأت سكاكينه تبرق خلف دخان هذا الحريق .
وقد أعذر من أنذر .
والله من وراء القصد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى