الأعمدة

إلى ذلك الحين : عبدالباسط شاطرابي

لم أتصور أن أتنقل داخل مسكني زاحفاً خشية الرصاص المتطاير، كما لم أتصور أن تتعرض أسرتي الصغيرة إلى مأزق حرب ندفع ثمنها والمدنيون كلهم، فتراق دماء الأبرياء، ويتهدد أمنهم، وتتقطع سبل معاشهم.
عشت الأيام المريرة تحت رعب الحرب في الخرطوم .. بأزيز طائراتها وهدير انفجاراتها ومطر مقذوفاتها .. وتلك قصة تطول تفاصيلها. كما تجرّعت، مرغماً، علقم النزوح والشتات الأسري، في وقت كنت أنتظر فيه أن تنقشع الغمة التي طالما حذرنا من وقوعها، لكنها أبت إلا أن تنصب خيامها على البلاد، لتحجب الرؤية عن كل المآسي التي تجري .. فلا صوت يعلو فوق صوت الموت والدمار!
……………………….
كنت دائما أقول إن الصمت في بعض المواقف هو أفضل لغة، فما أسهل أن يجلس الشخص على لوحة المفاتيح ليدبج المقالات التي تلبي أهواءه، ويكتب التغريدات التي تعكس مزاجه، ويصوغ المنشورات التي تفصح عن ميوله لطرف أو لآخر(!) تلك هي المهمة السهلة التي لا يعجز عنها أحد، لكن التحدي الأكبر هو أن يكف المرء عن خطيئة المشاركة في الضجيج، ترفعاً عن الولوغ في أجواء الفتنة، وإفساحاً لجهود المتنفذين وأباطرة الحرب وعقلاء المجتمع والمحيط الإقليمي والدولي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد أن أصبح لهيب النار لا يستثنى من هو داخل لظاها أو خارجه!
أعرف قدر نفسي، حيث لا أملك إيقاف الحرب، ولا أريد أن أكون من النافخين في كيرها، فقد كنت من دعاة تفاديها قبل نشوبها، فما أن نشبت نأيت بنفسي عن أوارها، لأترك من هو مؤهل أكثر مني لأداء دوره في إخمادها.
………………………….
ثقتي كاملة بأن كل حرب مهما طالت فهي إلى زوال، وثقتي كاملة بأن مع العسر يسرا، كما أن قناعتي كاملة بأن المنتصر حين يرفع إصبعيه السبابة والوسطى .. فسيكون مثخناً بالجراح، مقطّع الأطراف، نازف الفؤاد، لا حول له ولا قوة لجني ثمار انتصاره أو تحقيق رؤاه.
نصيحتي إلى أن تنتهي الحرب .. لا يكونن أحدكم جزءاً من إيقاد نيرانها.
لا يكونن أحد جزءاً من التحريض على استمرارها.
لا يكونن أحد من الرافعين عقيرتهم بتخوين من يخالفهم الرأي.
لا يكونن أحد من الساعين لإرهاب الآخرين من أجل إجبارهم على تبني رؤيته .
ولا يكونن أحد من المسيئين لأهله وأقاربه في “القروبات” بسبب خلاف الرأي، فتضيع الأواصر، وتكثر المغادرة، ويقع في النفوس ما يقع.
ثم، وهذا هو الأهم:
احذروا كل خطابات الكراهية للآخرين، الخطابات الجهوية، والعرقية، والعقائدية .. لا تكونوا جزءاً في اختلاقها، ولا تساهموا في ترويجها، واجعلوا حساباتكم الوسائطية مقبرة لها لا تغادرها إلى الآخرين أبداً.
كل حرب إلى زوال، لكن الكراهية لا تنطفئ نيرانها إلا بقدرة القادر على كل شيء.
إلى ذلك الحين .. وحتى تنقشع غمامات الحزن، دعواتي للوطن وأناسه وترابه بالسلامة والطمأنينة والعودة السريعة إلى الحياة الآمنة الكريمة ..وكل عام وأنتم بخير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى