الأعمدة

الصادق المهدي يكتب محذرا من مخطط تقسيم السودان : تغيير قسري بأمر واشنطن و “مبارك” صنع لنا أزمة بلا مبرر في “السودان”*

*❞ هذا السيناريو شرحه بالتفصيل في مرحلة لاحقة وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي دختر في محاضرة ألقاها في تل أبيب عام 2008، قال: إن الدول الوطنية العربية في شكلها الحالي مكونة بأسس غير طبيعية، والمطلوب تفكيكها على أسس دينية، وطائفية، واثنية، السودان مرشح ضمن هذا السيناريو للتقسيم على خمس دويلات: دولة جنوب السودان، ودولة دارفور، ودولة في شرق السودان، ودولة في جبال النوبة، ودولة لشمال ووسط السودان. ❝*
نشر بوساطة الصادق المهدي في الراكوبة يوم 29 – 05 – 2015
في الفكر الجيوسياسي الأميركي الحديث عدد من المدارس، من أصحابها كتاب مستنيرون أمثال بول كينيدي الذي يقول: لو وضعنا أنفسنا في مكان بلدان الشرق الأوسط لجعلتنا ظروف الظلم نتصرف كما يتصرفون، واستيفن والت وجون مير شايمر اللذين يستنكران نفوذ اللوبي الإسرائيلي في السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط، وغراهام فوللر الذي يتحدث عن عالم افتراضي بلا إسلام ويرى أن شعوب المنطقة المعنية، مهما كانت عقيدتهم الدينية، سوف يدفعهم شعورهم بالمظالم التي فرضت عليهم إلى تصرفات كما يحدث الآن.
مقابل هذه الرؤية توجد مدارس أخرى: ليو شتراوس وهو مهاجر من ألمانيا النازية دعوته هي حاجة أميركا إلى أيديولوجية تفرد يتماسك حولها المجتمع وتبث نفوذها في العالم.
وبرنارد لويس المهاجر إلى أميركا والذي صاغ عبارة صدام الحضارات، يرى أن الإسلام دين شرير ولا إنساني، ويرى أن المسلمين ضد الحضارة الغربية من حيث غيرتهم من نجاحها وفشل حضارتهم. هذه المدرسة هي زاد الإسلاموفوبيا في الغرب وترى أن العدو الذي ينبغي أن يواجهه الغرب، لا سيما بعد أفول الاتحاد السوفياتي، هو العالم الإسلامي.
السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط تبلورت بعد الحرب الأطلسية الثانية (1939 – 1945). إن تتبع مواقف الأحزاب الأميركية يظهر اختلافاً بين نهج الحزبين: الجمهوري والديموقراطي، فالفرق واضح بين سياسة رونالد ريغان الجمهوري وجيمي كارتر الديموقراطي، هذا الاختلاف أكثر وضوحاً بين جورج بوش الابن الجمهوري الذي أغرق بلاده في حروب إمبريالية في منطقة الشرق الأوسط وباراك أوباما الذي اجتهد في نقض حماقات سلفه الخارجية، وعمل على سحب قوات بلاده من أفغانستان والعراق، وأمسك عن غزو ليبيا وسورية وطبع علاقات بلاده مع كوبا ويوشك أن يطبعها مع إيران.
إسرائيل منذ تأسيسها قادها حزب العمل، ولكن منذ السبعينات من القرن الماضي اتجه حكامها يميناً فانحازت سياساتها لحزب الليكود وأحزاب يمينية متطرفة، وكانت إسرائيل تعتبر الحليف الموثوق به في الشرق الأوسط للولايات المتحدة في وجه النفوذ السوفياتي وفي وجه تمدد الحركات الوطنية، والقومية، والإسلامية، التي تتطلع إلى استقلال قرارها عن أي تبعية.
لدى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989 بدا كأن الغرب قد يستغنى عن دور إسرائيل كشرطي للمصالح الأميركية في المنطقة، لذلك تعددت الأصوات في اليمين الأميركي واليمين الإسرائيلي التي تنذر بأن الخطر القادم على المصالح الأميركية والحضارة الغربية هو «الأصولية الإسلامية». هذا الفهم جمع بين اليمين الإسرائيلي وقوى المحافظين الجدد التي سيطرت على جناح مهم في الحزب الجمهوري الأميركي.
تقويض الدولة الوطنية
ومنذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران في 1979 وما كان لها من أصداء في العالم الإسلامي اهتمت أجهزة الاستخبارات الغربية بالتعامل مع ظاهرة «الأصولية الإسلامية».
ونشرت في السبعينات روايات غربية تتخيل سيناريوات للتعامل مع «الأصولية الإسلامية» والعمل على احتوائها، وكان أكثر هذه السيناريوات «ذكاء» أن ينسف مشروع الأصولية الإسلامية يتم باستيلاء دعاتها على السلطة في بعض بلدان المسلمين، ويفشلون في تحقيق شعاراتهم البراقة، وفي تلبية مطالب شعبهم، ما يؤدي إلى فشلهم، ويحصل للشعار الإسلامي ما حصل للشعار القومي العربي من إخفاق.
وسيناريو آخر قال به استخباراتيون هو تقويض الدولة الوطنية في بلدان الشرق الأوسط بتفكيك مؤسسات الدولة الحديثة أو تشجيع تيارات الولاءات الموروثة الطائفية، والإثنية، على اشتباكات تمزق النسيج الاجتماعي وتؤدي إلى حركات انفصالية. هذا السيناريو شرحه بالتفصيل في مرحلة لاحقة وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آفي دختر في محاضرة ألقاها في تل أبيب عام 2008، قال: إن الدول الوطنية العربية في شكلها الحالي مكونة بأسس غير طبيعية، والمطلوب تفكيكها على أسس دينية، وطائفية، واثنية، السودان مرشح ضمن هذا السيناريو للتقسيم على خمس دويلات: دولة جنوب السودان، ودولة دارفور، ودولة في شرق السودان، ودولة في جبال النوبة، ودولة لشمال ووسط السودان.
ما يهمني هنا هو الصلة بين هذا المخطط وانقلاب 30/6/1989 في السودان.
لا توجد مبررات موضوعية لقيام انقلاب حزيران (يونيو) 1989، فالنظام الديموقراطي الذي كان يحكم السودان نجح في وضع خريطة طريق لمؤتمر قومي دستوري يعقد في 18/9/1989 لإبرام اتفاقية سلام شامل ليس فيها دور أجنبي، وليس فيها مطلب لتقرير المصير، كما نجح في جمع الكلمة حول مشروع تأصيل إسلامي يراعي التنوع، والتدرج، وحقوق المواطنة المتساوية، ونجح في القضاء على النمو الاقتصادي السالب الموروث من عهد الطغيان «المايوي» وتحقيق نسبة نمو عالية مقدارها في عام 1989 تساوي 12,5 في المئة، واستطاعت الحكومة الديموقراطية التصدي للمقاطعة الأميركية واستقطاب تعاون مؤثر مع كافة حلفاء الولايات المتحدة الذين دعموا ميزان المدفوعات وميزانية التنمية بحوالى 3 بلايين دولار، بل استطاعت الحكومة الديموقراطية وضع خطة مع اليابان لشراكة تنموية شاملة، ومع الصين لنقل تكنولوجيا عسكرية في مجال الأسلحة الثقيلة والدفاع الجوي.
وبعد مذكرة القوات المسلحة للحكومة في شباط (فبراير) 1989، وهي مذكرة كيدية خالية من أي مبرر موضوعي ولكنا تعاملنا معها بصورة أبطلت مفعولها الضار، وكلفنا السيد ميرغني النصري عضو مجلس رأس الدولة المستقل أن يدعو كافة القوى السياسية للاتفاق على برنامج قومي لمواجهة مشاكل البلاد صفاً واحداً، وقد كان. وبموجب برنامج القصر هذا تكونت حكومة وحدة وطنية (آذار/ مارس 1989- حزيران 1989). حكومة حظيت بتأييد برلماني منقطع النظير (80 في المئة من النواب). ومن سجلات الحكومة الديموقراطية عبر الفترة كلها (من 1986 – 1989) إنها واجهت أهم أزمات تعرضت لها البلاد وهي أزمة السيول والأمطار غير العادية في آب (أغسطس) 1988، وأزمة تظاهرات ضريبة السكر في كانون الأول (ديسمبر) 1988، وأزمة مذكرة القوات المسلحة في شباط 1989، واجهتها الحكومة الديموقراطية بكفاءة عالية، وفي إطار النظام الدستوري، من دون اللجوء إلى إجراءات استثنائية.
مصر والدفاع المشترك
المشكلة الوحيدة في وجه هذه النجاحات أن حكومة الرئيس المصري السابق حسني مبارك كانت غير راضية عن إلغاء الحكومة الديموقراطية لاتفاقية الدفاع المشترك، وهي اتفاقية أدخلت السودان منذ العهد «المايوي» طرفاً في الحرب الباردة، بينما موقفنا كان حيادياً من تلك الحرب، وهو موقف للمصلحة الوطنية، لأن هذا الانحياز جعل حلف عدن (اليمن الجنوبي، أثيوبيا منغستو، وليبيا القذافي) يدخل داعماً للحركة الشعبية في حربها ضد السودان. وكان نجاح التجربة الديموقراطية مؤرقاً للنظام في مصر، وعلى طول العهد الديموقراطي كانت دلائل عداوة نظام الرئيس السابق حسني مبارك للسودان الديموقراطي ظاهرة، كإيوائه جعفر نميري وعدم تسليمه لمحاكمته في الخرطوم.
كان لحكومة حسني مبارك في ذلك الوقت تحالف مع إدارة الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان، والتي كانت بدورها غير راضية عن تجربة ديموقراطية حريصة على استقلال القرار الوطني، وعن التخلي عن التسهيلات العسكرية التي كانت يمنحها لها النظام المايوي المنحاز لمعسكرها في الحرب الباردة.

هاتان الحكومتان كانتا بوضوح ضد نجاح التجربة الديموقراطية في السودان، وتعملان بكل الوسائل الخفية والإعلامية لتقويض التجربة الديموقراطية السودانية.
دلائل عدم رضا حكومة حسني مبارك عن نجاح التجربة الديموقراطية في السودان كثيرة. مثلاً – صنعوا لنا أزمة بلا مبرر في اختيار عضو مجلس رأس الدولة الاتحادي خلفاً للسيد محمد عبدالله يس، وكذلك أزمة بلا مبرر في إخراج الاتفاق على اتفاقية الميرغني – قرنق، كما اعترف لي بذلك صراحة الشريف زين العابدين الهندي.
وكذلك كان واضحاً عدم رضا الخارجية الأميركية، والدليل على ذلك قطع المعونات التي كانوا يدفعونها لنظام «مايو»، ونقل سفارتهم إلى حين من الخرطوم إلى نيروبي بحجة عدم الأمان في الخرطوم التي كانت أكثر أمناً من نيروبي بما لا يقاس، كما كانوا لا يرضون بأي شيء يغضب حليفتهم حكومة حسني مبارك كما اعترفت في وقت لاحق السيدة كوندوليزا رايس في محاضرة في جامعة القاهرة عام 2005، إذ قالت: نحن لستين عاماً وقفنا مع النظم الدكتاتورية لمصلحة رأيناها على حساب الديموقراطية!
لذلك عندما وقع انقلاب 30 حزيران 1989 اختفيت لأعرف حقيقة أهو سوداني محض أم هو تدبير أجنبي، فإن كان كذلك واصلت الاختفاء لمقاومته وإن كان سودانياً خالصاً ظهرت وأقدمت على حوار معه. وبعد أسبوع من الاختفاء بحسب معلوماتي يومئذٍ قررت الظهور ومخاطبة النظام بمذكرة وجدوها في جيبي عندما اعتقلت يوم الأربعاء 5 تموز (يوليو) 1989، ستة أيام بعد الانقلاب.
وبعد إطلاق سراحي في نيسان (أبريل) 1992، صرحت بأنني عندما اكتشفت أن الانقلاب سوداني محض اتجهت للحوار معه، عندئذٍ قال لي أحد كبار ضباط الأمن السوداني في عهد «مايو» وكان من الذين نالوا تدريباً مع هيئة الاستخبارات المركزية الأميركية: ليس صحيحاً أن هذا الانقلاب سوداني محض بل خططت له الاستخبارات الأميركية وكانت حلقة الوصل بين القوات المسلحة وقيادة الجبهة الإسلامية القومية صاحبة الانقلاب جماعة من الضباط العلمانيين ذوي العلاقة الخاصة مع الاستخبارات الأميركية، والدليل على ذلك أن هؤلاء الضباط قد نالوا وظائف عالية بعد نجاح الانقلاب، كما أن حكومة الرئيس السابق حسني مبارك والحكومة الأميركية رحبتا بالانقلاب وساعده في الأشهر الأولى كما كان واضحاً.
استغلال الديموقراطية
«الجبهة الإسلامية القومية» ذات المرجعية الإخوانية وجدت منا هي ومسمياتها السابقة معاملة ودية للغاية لم تعهدها التنظيمات ذات المرجعية الإخوانية في أي مكان في العالم. صحيح أنه بعد تحالفهم مع السيد جعفر نميري في برنامجه الزائف المعروف بقوانين سبتمبر 1983، ساءت العلاقة بيننا، وبعد انتخابات 1986، جلبوا أموالاً طائلة من التنظيم العالمي الإخواني أو حلفائه في الخليج، وصاروا بهذا الدعم ودعم من الرئيس العراقي السابق صدام حسين، أغنى حزب سوداني، ونشروا 7 صحف، ووجدوا في المجال الديموقراطي فرصة للتوسع بصورة كبيرة، واستغلوا الحريات الديموقراطية للقيام بحملة شرسة ضد الحكومة الديموقراطية. إذاً، حظهم تحت النظام الديموقراطي كان كبيراً سواء شاركوا في الحكم أو قادوا المعارضة، وكان قادتهم يقولون إن الديموقراطية هي «سياسة الأنبياء».
ونشأت داخل الحركات ذات المرجعية الإخوانية مخاوف من اتخاذ وسائل انقلابية لتنفيذ برامجها، هذا ما جاء واضحاً في اجتماع عقدته المنظمات ذات المرجعية الإخوانية عام 1989، كما أن كل أصحاب الأجندات السياسية الذين اختاروا الوصول إلى أهدافهم بالطريق الانقلابي ندموا وأعلنوا خطأهم. حدث هذا في السودان على لسان السيد عبد الله خليل في انقلاب 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 1958، وشقيت به قيادة الحزب الشيوعي السوداني التي تحالفت مع انقلاب 25/5/1969، وسجل خطأ الاستعانة بانقلابات لخدمة أجندة سياسية وفكرية المفكر السوري منيف الرزاز في كتابه الشهير «التجربة المرة»، لذلك كنت استبعد أن تقدم قيادة الجبهة الإسلامية القومية على انقلاب يدخلها في متاهات خاسرة مع أن حظها في النظام الديموقراطي كان كاسباً.
في ما بعد تعللوا للإقدام على الانقلاب بأنهم كانوا يسابقون انقلابين آخرين بعثيين، نعم، هنالك للأسف نزعة لدى كثير من العقائديين أن الديموقراطية الليبرالية لا تمنحهم فرصة للسلطة فيختارون الانقلاب وسيلة لذلك، فإذا شعرت الجبهة الإسلامية القومية بخطر على الديموقراطية فالنهج الصحيح التعاون مع الحكومة لحماية الديموقراطية التي يؤيدونها مبدئياً ويرون أن حظهم في الكسب السياسي فيها كبير. وتعللوا أن قيادة القوات المسلحة، لا سيما بمذكرة شباط 1989 كانت تطالب باستبعاد الجبهة الإسلامية القومية من الحكومة. نعم بعد أن أمكننا احتواء آثار تلك المذكرة قابلني السيدان فتحي أحمد علي ومهدي بابو نمر ليشكراني على الطريقة الجيدة، كما قالا، التي تعاملنا بها مع المذكرة، ولكن لهما مطلبان هما ألا تسند وزارة الدفاع للسيد صلاح عبدالسلام، وألا يشمل التكوين الوزاري المزمع الجبهة الإٍسلامية القومية. أثناء حكومة الوفاق الوطني جرت مساجلات خلافية بين قيادة الجبهة الإسلامية القومية ووزير الدفاع يومئذ السيد عبد الماجد حامد خليل حول أولوية وكيفية تحقيق السلام، وكان للسيد عبد الماجد صلة بمن كتبوا مذكرة القوات المسلحة، قلت لفتحي ومهدي: هذا الأمر لا يخصكما فاسحبا هذا الطلب وسأتعامل معه كأنه لم يقدم. قلت لهما هنالك حوار في القصر يقوده السيد ميرغني النصري وكل القوى السياسية السودانية مشتركة فيه وأتوقع أن يصدر عنه برنامج سياسي قومي. كل الذين يشاركون في ذلك البرنامج سوف يشتركون في الحكومة القومية المزمع تكوينها، والجبهة الإسلامية سوف تشترك في الحكومة إذا أيدت ذلك البرنامج. قبلا نصحي وانتهى الأمر. وبعد ذلك أخبرت قيادة الجبهة الإسلامية بما جرى وقلت إنني أعتبره كأنه لم يكن، وهي فكرة لدى بعض القيادات العسكرية ولا تمثل رأياً مجمعاً عليه داخل القوات المسلحة.
قال لي الخبير الأمني ليفسر سبب إقدام الجبهة الإسلامية القومية على مغامرة الانقلاب: إن الاستخبارات الأميركية تدرس تصرفات القوى السياسية والحكومات الافتراضية ضمن ما يسمونه «لعبة الأمم» التي شرح مضمونها السيد مايلز كوبلاند في كتابه بعنوان «لعبة الأمم»، ومن النتائج التي استنتجوها عن الجبهة الإسلامية القومية أنها لا تقيم للديمقراطية وزناً وأنها متعطشة للسلطة بأية وسيلة، وأنها قد حبست نفسها في برنامج من بند واحد وهو التطبيق الفوري للشريعة الإٍسلامية. لذلك يمكن أن يندفعوا إلى القيام بانقلاب وسوف تكون تركيبة القوى الانقلابية، والتناقض بين البرنامج الأحادي هذا ومطالب الحركة الجنوبية، والإقدام على السلطة من دون أية تحضيرات مناسبة والتناقض مع الواقع الإقليمي والدولي… عوامل كفيلة بإخفاق التجربة باسم الإسلام، وهو الهدف المراد تحقيقه.
وفي تقدير الاستخبارات الأميركية وحليفها اليمين الصهيوني أن فرض أجندة إسلاموية حزبية على مجتمع متعدد الأديان، ومتعدد الطوائف، ومتعدد الثقافات، سوف يفشل باسم الإسلام، فيدمر بريق الشعار الإسلامي كما حدث للتجربة القومية العربية. وأن هذه الأجندة الأحادية من شأنها أن تفكك البلاد، وهذا هو المطلوب.
تتبّع ما جرى للإسلام وللسودان نتيجة لتجربة انقلاب حزيران 1989 يوصل إلى أن التجربة شوهت الشعار الإسلامي تماماً، وصارت لدى المفكرين والناشطين الإسلاميين مضرب المثل للإخفاق، ولدى غيرهم صارت شاهداً لعدم صلاحية المرجعية الإسلامية في الشأن العام وصحة ما يقولون به وهو النهج العلماني.
وتتبّع سياسات النظام الانقلابي يظهر كيف حقق برنامج تفكيك السودان.
عندما استولى الانقلابيون على السلطة وجدوا مشروع سلام وشيكاً يبرمه مؤتمر قومي دستوري في 18/9/1989، مشروعاً ليس فيه تقرير مصير وليس فيه دور لجهات أجنبية، لكنهم ركلوا هذا المشروع واندفعوا في شيطنة سياسة العهد الديموقراطي ظلماً، وحولوا وصف الاقتتال بأنه جهاد لأعداء الله الكافرين وسوف يقضون عليهم بالحسم القتالي. هذا النهج كان برداً وسلاماً على الحركة الشعبية لتحرير السودان، قال لي د. جون قرنق لولا أن يساء الفهم لاقترحت أن نقيم تماثيل لقادة النظام الانقلابي في جوبا لأن سياساتهم جلبت لنا تأييداً دولياً وكنسياً لا يقدر بثمن.
النظام يدعو إلى حمل السلاح ضده، فرئيسه قال إنهم أخذوا السلطة بالقوة ومن يريدها عليه أن يسعى إليها بالقوة. لاحقاً عندما تراجعوا وتغيرت اللغة للحوار، قال الرئيس إنهم يعترفون فقط بمن يحمل السلاح ولا يتحاورون إلا مع من يحمل السلاح، وهذا حدث بالفعل، فاتفاقياتهم تمت مع حملة السلاح وبرعاية دولية، بينما تعاملوا مع القوى السياسية المدنية باستخفاف وبطشوا بها.
الغريب أن السيد/ مني أركو مناوي دعوه للحوار ثم خاصموه ثم دعوه للحوار، وهو يحمل السلاح، لكنه عندما وقّع على إعلان باريس الذي يدعو للحل السياسي طلبوه بالإنتربول!!
وبعد فترة من التهريج بشعارات الجهاد تراجع النظام وأبرم اتفاقية عام 2005، الاتفاقية حظيت بدعم إقليميي ودولي كبير، ما أوهم النظام أنه اكتسب شرعية دولية بموجبها، وحظيت بدعم كثير من القوى السياسية السودانية، ولكننا في حزب الأمة كشفنا عورات تلك الاتفاقية بكتاب صدر بعنوان: «اتفاقية السلام يناير 2005 ومشروع الدستور أبريل 2005 في الميزان».
كان واضحاً أن الاتفاقية لن تجعل الوحدة جاذبة بل الانفصال جاذباً.
وكان واضحاً أن الاتفاقية أبقت على بنود مهمة معلقة، فثلاثة بروتوكولات هي: أبيي، وجنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، قنابل موقوتة من شأنها تجديد الحرب.
أما ما وعدت به الاتفاقية من حريات عامة فالنص جيد لكن التطبيق مربوط بإجراءات تشريعية عبر برلمان يسيطر عليه الحزب الحاكم الذي جعل تلك النصوص معلقة في الهواء.
النتيجة أن اتفاقية السلام (2005) خريطة طريق لفصل الجنوب ولإنتاج «جنوب» جديد يواصل الاقتتال من أجل انفصالات أخرى.
إلى بنادق كثيوة
عندما وقع انقلاب 30 يونيو لم تكن في دارفور بندقية واحدة موجهة ضد الحكومة الولائية ولا المركزية، بل كانت المشاكل محصورة في صراع قبلي على الموارد، ونهب مسلح ومطالب تنموية وخدمية. وعندما وقع الانقلاب وجد تحضيراً لمؤتمر في دارفور لمعالجة تلك المشاكل المحدودة. النسيج الاجتماعي كان معافىً، ولم يوجد حاجز اليوم الإثني بين قبائل دارفور. كانت دارفور إقليماً واحداً يحكمه حاكم مقبول من كل أهلها (المرحوم د. عبد النبي علي أحمد وبعده د. التجاني السيسي) . كذلك فوز المرحوم أحمد عبد القادر حبيب في انتخابات 1986 في مركز الرزيقات (الضعين) وهو زغاوي.
اندفع النظام الانقلابي في سياسات هدفها تغيير النسيج الاجتماعي في دارفور لصالح أجندته الأحادية، سياسات أفرزت ردود فعل مضادة أدت في ما بعد عام 2000 لتكوين أحزاب سياسية مسلحة بعنوان «حركة تحرير السودان»، و «حركة العدل والمساواة»، وبعد حادث الهجوم على مطار الفاشر الجمعة 25 نيسان (أبريل) 2003، صنف النظام حركات المقاومة المسلحة إثنياً واتجه إلى تجنيد المكون الاثني الآخر في دارفور (العرب) لمحاربتها. هكذا تعززت النظرة التي روج لها د. جون قرنق: أن المشكلة في السودان ليست جهوية بين شمال وجنوب، بل اثنية بين عرب وأفارقة.
عندما اندلعت المقاومة المسلحة في دارفور بعد عام 2002 كانت النصيحة الأجنبية لهم: «ركزوا على اتفاقية السلام مع الجنوب»، أما دارفور فمسألة داخلية احسموها بسرعة وكفاءة». اعتبر النظام هذا ضوءاً أخضر ليفعلوا في دارفور ما يشاؤون، ما جعلهم، من طريق الميليشيات القبلية، يرتكبون التجاوزات التي راكمت ضد النظام قرارات مجلس الأمن تحت الفصل السابع، وذهبت بقيادة النظام للمحكمة الجنائية الدولية.
سمع الرئيس العراقي صدام حسين حديثاً من السيدة ابريل غلاسبي فسره بأنه ضوء أخضر لغزو الكويت، وكان ما كان، الرأي نفسه أو «النصيحة» التي جعلت النظام الانقلابي يخوض في دارفور خطة الأرض المحروقة.
هذه الخطة عمقت الاستقطاب الاثني في دارفور وحولت دارفور إلى قضية حقوق لإنسان الأولى في العالم.
خطة اليمين الأميركي المتحالف مع اليمين الصهيوني هي أن حماية أمن إسرائيل تعتمد على تفوقها العسكري على جميع جيرانها مجتمعين، وعلى المدى البعيد لا يحافظ على بقاء إسرائيل دولة يهودية إلا تفكيك الدول العربية. فتفقد الدول وحدتها الوطنية مفرقة دينياً، وطائفياً، وإثنياً. ويفقد الفضاء العربي وحدته القومية.
هذه الأهداف وسائل تحقيقها ليست الغزو العسكري المباشر بل نوع آخر من الحرب وسائله: تدمير مؤسسات الدولة الوطنية، وتفكيك وحدة شعبها إثنياً، ودينياً، وطائفياً، عوامل تؤدي في النهاية لنتائج التقسيم والانفصال.
* رئيس حزب الأمة. آخر رئيس وزراء في سلطة سو حلقة ثانية أ
اقتباس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى