رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

هذه الحرب التي اعادتني إلى ذاتي. الحلقة الرابعة ..

بعد عودتنا إلى الجزيرة وقبل سقوط مدينة ودمدني عاصمة ولاية الجزيرة بعد انسحاب الفرقة العسكرية التابعة لقوات الشعب المسلحة منها وبالتالي دخول قوات الدعم السريع الى المدينة واندياحا منها لتنتشر في أغلب نواحي الولاية شرق نيلها وغربة .
كانت الحياة في الجزيرة خلال تلك الشهور الفاصلة ما بين ذلك السقوط تمضي في هدوء حذر و اعتيادية نوعا ما ..إذ كانت حركة الأسواق و المواصلات فضلا عن استمرار خدمات الكهرباء والمياه والمشافي الخ وكانت مظاهر العمل في دواوين الدولة تمضي في دورانها اليومي رغم الأنباء التي بدأت تترى من بعض أنحاء شرق النيل بأن قوات الدعم السريع اخذت تناور في توغلها نحو تخوم الجزيرة شرقا وغربا مما فاقم في ازدياد حركة نزوح مواطني تلك القرى الذين بدا يتهددهم الخطر متوجهين إلى مناطق قلب الجزيرة .
وكان الناس في وسط الجزيرة على وجه التحديد بالرغم عن ذلك كله يتحركون مابين الحصاحيصا وودمدني و حتى شمالا ناحية ابوعشر والكاملين. وشرقا إلى رفاعة وتمبول وغيرها من المناطق في تواصل اجتماعي أو تجاري بينما كانت ارتكازات الجيش تتوزع على امتداد طريق الخرطوم /مدني الرابط بين تلك الانحاء وتقوم بإجراءات التأكد من مقاصد الحافلات ولا يخلو الأمر من التحقق من أوراق المركبات وسائقيها و هويات الركاب لاسيما الشباب منهم وقد تصل في حزمها حد احتجاز بعضهم للمزيد من التحري .
وأذكر أنه حينما تعذر سفري الى الخرطوم بسبب تردي الحالة الأمنية فيها أن نصحني البعض بالإبلاغ عن سرقة سيارتي و بعض المقتنيات المنزلية الأخرى في مركز شرطة ونيابة محلية الحصاحيصا بدلا عن الجهة التابعة لمكان سكني وهي منطقة سوبا غرب نظرا لاستحالة الوصول إليها و ان البلاغ هنا سيفي بالغرض المطلوب.
وحينما سألني مسجل البلاغات بالنيابة عن الذي اتهمه بسرقة مفقوداتي وقبل أن أجيب قاطعني بالقول ..هل شاهدت من سرق سيارتك ومقتنياتك ..فأجبته في تلك الأثناء انا كنت بالجزيرة بعد ان غادرت منزلي في سوبا .
فقال لي ..إذن ..سأكتب أن الفاعل مجهول !!!!!!
ثم سقطت ود مدني العاصمة الساكنة كاليمامة المسالمة وهي تربض عند الضفة الغربية من النيل الازرق الخالد ..ومن هنا نستطيع أن نقولها بملء الفم أن الفاس حينها لم يقع فوق راس الجزيرة فحسب بل شق كل جسد الوطن الجريح اصلا بنصال حرب لا ناقة فيها لشعبه ولا حتى سخل !
فالجزيرة هي سرة الوطن التي دفنت معها في ثراها التبر خيراته وتفرعت اركانها الطرق التي تربط شرق البلاد و غربها ..ولحظتها أسقط في يد الملايين الذين استفاقوا على وقع الصدمة في صبح الفجيعة وهم الذين ناموا بالامس متوسدين عبارات التطمين بأن الجزيرة وخاصة مدني عصية على من بحلم بغزوها ومحروسة بآلالاف المتطوعين الذين يقفون في الخطوط الأمامية مع كتيبتها الساهرة على حراستها !
وكلما توغلت قوات الدعم في أية رقعة قصدتها في ارض الجزيرة كانت وتيرة النزوح تتصاعد نحو مختلف الولايات المتاخمة وحتى البعيدة فأصبحت ودمدني في كثير من احيائها طاردة للذين لاذوا طلبا للامان فيها ليبداوا من جديد رحلة عذاب مجهولة المشارب و غامضة المصير .
ولم تكن قلوب سكان القرى التي تركوها خلفهم بكل عزيز وغالي وغلة وثمار فأصبحت نهبا للطيور والهوان وحتى زوار النهار الذين لم يعودوا في حاجة للتدثر بسواد الليل ليمارسوا النهب والسلب إذ هم باتوا اللصوص والقضاة والجلادين في غياب مظاهر الدولة التي اخلت مختلف مواقعها منذ أن دخلت القوات الغازية وفرضت سيطرتها على المواطنين العزل بقوة السلاح !
وللحقيقة كان وجود الدعم السريع في بداية الأمر في شكل ارتكازات أقيمت كنقاط تفتيش لمسأءلة الخارجين من القرى أو الداخلين إليها ولم تكن عمليات اقتحام القرى قد بدأت بصورة راتبة بل إن الكثير من قرى الجزيرة كان شبابها يقومون بعمل تروس في شكل دوريات حراسة ويتولون تأمين المداخل عند الكباري أو بحفر الخنادق المغمورة بالمياه للحد من حركة سيارات الدعم السريع التي كانت تحاول التوغل في تلك القرى وكانت تلك التحوطات تثير تحفظات بل وغضب من يدعون أنهم قادة تلك السرايا الغائرة وكثيرا ما تحرشوا باولئك الشباب و انذروهم بعواقب الويل والثبور وعظائم الامور ان لم يقوموا بإزالة تلك المتاريس ..غير ان ذلك التهديد لم يفت في عضد اولئك الفتية الذين آلوا على أنفسهم أن اقتحام قراهم هو عار دونه خرط القتاد .

يتبع ..

زر الذهاب إلى الأعلى