
لفت نظري خلال فترة الإغتراب الطويلة ..أنه حينما يعود احدنا من الإجازة التي قضاها في السودان ومن ثم نذهب للسلام عليه في منزل العزابة الذي يضم غالبا مجموعة من ابناء القرية الواحدة او منطقة بعينها تشمل عدة قرى متقاربة جغرافيا و متشابهة بيئيا ..فيكون السؤال التقليدي المعتاد ..كيف الحلة بالله وناس الفريق !
على خلاف سؤال ابناء جارتنا مصر في مثل هذه الحالات و الذي يكون إزاي مصر واهل مصر ..وحشتني اوي .
ومن هنا يكون الفارق الكبير مابين الطبيعة الفطرية لتشكل الحس الوطني الشامل وبين الوجدان الشعوبي الشوفيني الضيق ..وهو اختلاف جوهري في تكوين الشخصية السودانية ولعله من الشجاعة بمكان ان نعترف به ليس انتقاصا من كينونتنا الذاتية في مقابل تمجيد كينونة الآخرين ..بل لاتخاذه كمخرج من نزاعاتنا الجهوية والاثنية التي حالت عن بلوغنا مرحلة خلق الحد الأدنى من انسجامنا كشعوب مختلفة الثقافات وفشلنا في تكون آمة واحدة تحكمها الحقوق والواجبات التي تعني المساواة في المواطنة وهي كلمة السر الاهم في لغة التعايش السلمي الذي تتصاعد وتيرته مع اتساع رقعة التعليم غير الإنتقائي و ازدياد الوعي الجمعي و اعطاء الاولوية للبحوث والتدريب التطبيقي والتجريب العملي في تطوير ادوات الإنتاج كل وفق معطيات جغرافيته من عوامل الطبيعة البشرية من حيث القابلية للعطاء التكاملي قبل التفكير في الاخذ الذاتي بل ولتسخير النهضة البيئية لتصب في المجرى العام للدولة الحديثة المعالم بمقاييس استراتيجية بعيدة المدى في النظرة إلى اجيال المستقبل بعيدا عن الإنكفاء على الذات و حصر الطموح الاني في سياسة رزق اليوم باليوم التي تقعد بتنمية المجتمعات فتنحسر نهضتها متى ما جعلت التفكير في (الانا) متسيدا على فرضية النظرة الأعمق تجاه ( النحن) التي تصبح العجينة الاولى لبناء الامة وهو امر يختلف عن بناء الدولة بمفهومها الإداري لتنظيم احتياجات المكونات الاجتماعية و بعيدا عن الخلط بين الدولة ككيان اعتباري والحكومة التي ينحصر دورها في التكليف بتسيير شئون الناس بتفويض منهم ليس بالضرورة ان يكون بالإجماع المطلق وانما على الاتفاق حول البرنامج الامثل لكل مرحلة بعينها وفقا للتداول وليس الديمومة .
الآن نحن في مفترق طرق خطير وسنظل فيه متى ما ظللنا في منزلق التلاوم والتخوين والتقليل من امانة بعضنا الوطنية مدفوعين اما بتغليب النزعات الفكرية السياسية التي يعول اصحابها من الساسة وجماهيرهم من هذا الطرف او ذاك الكيان السياسي على انهم من يملكون احتكار الحقيقة المطلقة .. وإلا لما حورب الانبياء والرسل وقتل الخلفاء الراشدون ولا انهارت امبراطوريات عدة لطالما سادت ومن ثم بادت ولعل آخرها في عصرنا الحديث كمثال وليس حصرا تفكك الاتحاد السوفيتي الذي تقاسم العالم مع المعسكر الغربي لسبعين عاما ..فقط لان ساسته نجحوا في بناء دولة حديثة زاحمت الغرب في كل التطور العلمي و الصناعي وسباق التسلح النووي و السعي إلى اكتشاف الفضاء ولكن كانت العلة الاساسية ان اولئك الساسة البلاشفة اهملوا اهمية بناء الامة الواحدة ثقافيا واجتماعيا وحكموا الناس بتكميم التفكير إلا داخل صندوق النظرية الاحادية التي تكسرت نصالها عند جدار برلين وادي ذلك بدوره لتسقط معه سياسة الفصل ما بين الحرية الليبرالية وديكتاتورية الطبقة العاملة اليسارية التي فشلت بدءا في تجربة بولندا حيث اصبح ليش فاليسا اول نقابي غير شيوعي يعتلي سدة الرئاسة في بلاده ذاتها التي صدرت للعالم المسيحي في التسعينيات احد البابوات من بلد كانت فيه الطقوس الدينية من المحرمات إبان حكم النظام الاشتراكي في اروبا الشرقية التي اتجهت الآن إلى نهج مختلف تماما .
وما يجب ان نعيه من الدروس و نتعظ منه ونستقي منه العبر ان الحروب لاتنشاء من الفراغ مثلها مثل الطبيعة التي لا تعرف ذلك الافتراض على إطلاقه ..فقد تضع حربنا هذه اوزارها عاجلا او اجلا من حيث الصراع العسكري وهو علاج قد تبرا جراحه تحت ضمادات النشوة العاطفية بالنصر الذي نؤمن على انه مفرح حقيقة لا مجازا ولكن الجرح سيظل في اطراد تقيحه لان الذي ازيل منه هو العرض وليس السبب الذي كان سلاحا لتفتيح الجرح و استعصاء السيطرة على عدم استشرائه في بقية الجسد .
لن تعود دارفور معافاة كلية ولو استعدنا الفاشر كما عادت إلى حضن الوطن بعد سقوط مملكتها بعد مقتل السلطان علي دينار ..لان هناك الآن عشرات من أمثال دينار يتجاذبون رسن الرواحل التي ليست متوجهة بالطبع بمحامل الزاد وكسوة الكعبة الشريفة ..وانما كل لياخذها إلى وجهته الحركية .
ولن يشفى الوسط من اورام التزمت الإحني وان تحررت مدني والخرطوم و سنار ولن تكون الشمالية و نهر النيل والشرق في مامن طالما ان هنالك من العيون في كل مكان تبغض سحنات الآخرين دون تبصر في إيجاد الحلول المثلى للتعايش وليس حقد التنافر بالإصرار على سياسة الطرد بدلا عن النظر إلى استثمار الطاقات في تطوير وسائل الإنتاج التي تركناها غفلة منا و نريد استعادتها بعد فوات الاوان إذ اصبح الشريك هو المنتج الاعلى كفا والمالك هو المستهلك الادنى قدرة على الإمساك ولو بمجرد قبضة تراب من ارضه التبر .
وعلينا مواجهة النفوس بالحقائق المرة التي قادتنا من مرحلة التفريط استهانة في البداية وبدانا نتحسس الحلول بالإفراط في الاقتتال الذي قد يفيد إذا ما كانت له اهداف مرسومة لحماية الارض والعرض وفق رؤية وطنية خالية من ضيق المطامع وبعيدة عن العجز عن بناء امة تتعايش ولو في الحد المعقول لاحتياج البشر لبعضهم مهما اختلفوا في مكوناتهم وفي عالمنا الحديث نماذج حية انبنت حوائطها هشة في البداية بمونة عجنتها الدموع وسمدت حقولها الدماء .ثم ارتفعت حجارتها لتغدو اطوادا تلامس السحاب ولكن بتضافر السواعد وليس بتجريم النوايا وتجريح الكرامة .