
بقلم : معاوية أبوالريش
حين يلتقي الشعر بالموسيقى في حالة إبداعية نادرة، تولد أعمال فنية تتجاوز زمنها لتصبح جزءاً من الذاكرة الجمعية للأمم. “عز الليل” واحدة من هذه النوادر التي خرجت من رحم التجربة الإنسانية العميقة، لتحكي قصة الحب والفراق والصبر بلغة شعرية تخترق حجب القلوب.
التجاني حاج موسى، بقلمه الذي يقطر شعراً، رسم بكلماته لوحة عاطفية متكاملة، بينما عبد الكريم الكابلي – ذلك الساحر الذي يحول النغمات إلى مشاعر – صاغ لحناً يسكن الوجدان ولا يغادره. والنتيجة؟ تحفة فنية تحمل في طياتها خلاصة التجربة السودانية في التعبير عن أعمق المشاعر الإنسانية.
“افتتاحية الليل والذكرى”
البيت الأول: لوحة شاعرية متكاملة
“في عز الليل .. ساعة النسمة ترتاح .. على هدب الدغش وتنوم”
يفتتح الشاعر التجاني حاج موسى قصيدته بمشهد بصري آسر يضعنا في قلب الليل في أعمق ساعاته. كلمة “عز” تحمل دلالتين: الوقت الأعمق من الليل، والقوة والهيبة التي يملكها هذا الوقت على النفس الإنسانية.
التعبير “ساعة النسمة ترتاح” يجسد حالة السكون المطلق التي تسود الكون في هذه اللحظة المقدسة، حيث حتى النسيم يأخذ قسطاً من الراحة. أما “هدب الدغش” فهو تعبير شاعري بديع، حيث “الدغش” في العامية السودانية يعني الصباح الباكر، و”هدبه” يشير إلى تلك اللحظة الحساسة بين آخر الليل وأول الصباح، كأهداب العين التي تحمي الحدقة.
البيت الثاني: البوح العاطفي المباشر
“أنا مساهر .. هد الحيل .. غرامك واجترار الذكرى .. طيفك في خيالي يحوم”
ينتقل الشاعر من الوصف الخارجي إلى الاعتراف الداخلي. كلمة “مساهر” تحمل معنى عميقاً يتجاوز مجرد عدم النوم، فهي تعني الرفقة والصحبة مع الليل، كأن الليل أصبح الصديق الوفي الذي يشارك الألم والذكريات.
“هد الحيل” تعبير سوداني أصيل يصف حالة الإعياء النفسي والجسدي الناتج عن فرط المشاعر. بينما “اجترار الذكرى” استعارة بليغة تشبه التعامل مع الذكريات بمضغ الطعام مراراً وتكراراً، مما يدل على التفكير المستمر والمؤلم في الماضي.
العبارة الختامية “طيفك في خيالي يحوم” تصور الحبيبة كطيف أو روح تتحرك في مخيلة العاشق، والفعل “يحوم” يدل على الحركة الدائرية المستمرة، مما يعكس عدم القدرة على التخلص من هذا الخيال.
“الحوار مع الكون والزمن”
المقطع الثاني: السهر المقدس
“انا والليل .. ومر جفاك مساهرين نحكي للافلاك”
يرتقي الشاعر بالتجربة الشخصية إلى مستوى كوني، حيث يصبح هو والليل و”مر الجفاء” ثلاثة رفقاء في سهرة مقدسة. هذا التجسيد لمرارة الهجر كشخص ثالث يحمل مفارقة جميلة: كيف يمكن للألم أن يصبح رفيقاً؟ لكن هذا هو سر الشعر في تحويل المعاناة إلى جمال.
التعبير “نحكي للأفلاك” يرفع الحوار من المستوى الأرضي إلى السماوي، كأن النجوم والكواكب هي الشهود والمستمعون لهذا العذاب العاطفي.
“لاخلصت حكاوينا .. لالقينا البداوينا”
هذه العبارة تحمل فلسفة عميقة حول طبيعة الحب وعدم انتهائه. الحكايات مع الحبيبة لا تنتهي، والبدايات تتجدد باستمرار في دورة أبدية من الذكرى والألم والأمل.
“يامشهيني طعم النوم .. وطيفك في خيالي يحوم”
“مشهيني طعم النوم” تعبير شاعري فريد يجعل من النوم طعاماً مشتهى، والأرق جوعاً لا يُشبع. هذا يعكس حالة الأرق المزمن الناتج عن فرط التفكير والشوق.
” فلسفة الزمن والذاكرة”
المقطع الثالث: صراع الزمن والذكرى
“سنين مرت .. ومروا سنين .. وبراك عارف وبي ادرى”
التكرار في هذا البيت ليس مجرد إعادة لفظية، بل تجسيد لثقل الزمن ووطأته على النفس. الشاعر يستخدم صيغتين مختلفتين للتعبير عن مرور الوقت، مما يعكس تنوع تجربة الزمن في حالة الحب والفراق.
“وبراك عارف وبي أدرى” يخلق حواراً داخلياً يعكس التردد والشك في مشاعر الطرف الآخر، بينما يؤكد على يقينه من مشاعره الخاصة.
“والحال ياهو نفس الحال وفي جواي صدى الذكرى”
هذا البيت يعبر عن ثبات الحالة العاطفية رغم مرور الزمن. “صدى الذكرى” استعارة بديعة تصور كيف تتردد الذكريات في أعماق النفس كالصدى في الجبال، لا تنتهي بل تتكرر وتتردد.
“وجرحك ياغرام الروح لاطاب لابيدور يبرئ”
يرفع الشاعر الجرح العاطفي إلى مستوى المقدس، فهو ليس مجرد ألم عابر بل “غرام الروح” حب يتجاوز الجسد إلى أعماق الروح. التعبير السوداني “لا طاب لا بيدور يبرئ” يعني أن هذا الجرح لا يطيب ولا يشفى مهما مر الزمن.
“ده جرحك مهما طول وغار مطبوع فيني بالفطرة”
“مطبوع بالفطرة” تعبير عميق يجعل من الحب المؤلم جزءاً من الطبيعة الإنسانية، شيئاً وُلد مع الإنسان وليس مكتسباً من التجربة.
“وبين الذكرى والنسيان .. مسافة قريبة يا انسان”
هذا البيت فلسفي بامتياز، يتأمل فيه الشاعر طبيعة الذاكرة الإنسانية والمسافة الرقيقة بين التذكر والنسيان. الخطاب هنا يتوجه للإنسانية جمعاء، مما يرفع التجربة الشخصية إلى مستوى إنساني عام.
” الخلود في مواجهة التغيير”
المقطع الرابع: صمود المشاعر أمام تقلبات الزمن
“ولو حاولت تتذكر .. تعيد الماضي من أول .. تلقى الزمن غير ملامحنا ونحن بقينا مانحن”
هذا المقطع يحمل تأملاً عميقاً في طبيعة الزمن والثبات. الزمن قادر على تغيير كل شيء خارجي – الوجوه والأماكن والأشياء – لكن جوهر المشاعر والطبائع الإنسانية يبقى ثابتاً. هذا التناقض بين التغيير الخارجي والثبات الداخلي يخلق توتراً شعرياً جميلاً.
“وانا الصابر على المحنة”
هنا يقدم الشاعر نفسه كنموذج للصبر والثبات في وجه الابتلاء العاطفي. الصبر هنا ليس مجرد تحمل، بل فضيلة وقوة روحية.
“ولو كان الزمان قساك .. انا ماقسيت .. ولو في يوم زمن نساك انا مانسيت”
هذا التقابل الجميل بين قسوة الزمن ورحمة المحب، بين نسيان الزمن ووفاء القلب، يخلق ذروة عاطفية في القصيدة. إنه تحدٍ مباشر للزمن وتقلباته، وإعلان عن انتصار الحب على النسيان.
” الخاتمة الدائرية”
“وفي عز الليل ياهاجر .. أنا مساهر”
يعود الشاعر بنا إلى نقطة البداية، لكن بعد رحلة طويلة عبر مسارات المشاعر والأفكار. هذا البناء الدائري يعكس دورية التجربة العاطفية وأبديتها، وكأن الحب الحقيقي دورة مستمرة لا تنتهي.
” عبقرية اللحن: الكابلي يترجم الشعر إلى موسيقى”
اللحن كمرآة للمعنى
عبد الكريم الكابلي، بحسه الموسيقي المرهف وفهمه العميق للشعر السوداني، نجح في ترجمة كل معنى وكل مشعر في النص إلى نغمات تصل مباشرة إلى القلب. لحن “عز الليل” يمثل نموذجاً مثالياً للتناغم بين الكلمة والنغمة.
” البناء الموسيقي للأغنية”
يبدأ اللحن بمقدمة موسيقية هادئة تحاكي سكون الليل وهدوء النسيم، ثم يتدرج تدريجاً مع دخول الصوت ليحضر المستمع إلى عالم الأغنية بنعومة. هذا التدرج يعكس انتقال الشاعر من الوصف الخارجي إلى البوح الداخلي.
مع بداية “أنا مساهر”، يبدأ اللحن في الارتفاع تدريجياً، مصاحباً الارتفاع العاطفي في النص. والعبارة الختامية “يا هاجر” تأتي كصرخة موسيقية مكتومة تخترق صمت الليل.
” التناغم مع المقاطع المختلفة”
في المقطع الثاني، حيث يتحدث الشاعر عن الحوار مع الأفلاك، يأخذ اللحن طابعاً تأملياً أوسع، كأنه يحاكي اتساع الفضاء والحوار الكوني.
أما في المقطع الثالث، حيث فلسفة الزمن والذاكرة، فيصبح اللحن أكثر عمقاً وتعقيداً، مع تكرارات موسيقية تحاكي “صدى الذكرى” المذكور في النص.
في المقطع الأخير، يصل اللحن إلى ذروته العاطفية مع التحدي المباشر للزمن في “ولو كان الزمان قساك .. أنا ماقسيت”، ثم يهدأ تدريجياً مع العودة إلى “عز الليل”، مكملاً الدائرة الموسيقية كما أكمل الشاعر الدائرة الشعرية.
” خصائص اللحن الكابلي”
يتميز لحن الكابلي بعدة خصائص تجعله فريداً: -التدرج الطبيعي : اللحن يتدرج بطبيعية مع المعنى دون قفزات مفاجئة – الثراء الهارموني : استخدام تناغمات معقدة تعكس تعقد المشاعر الإنسانية – الأصالة السودانية: اللحن يحمل طابع الموسيقى السودانية الأصيلة مع لمسات عصرية – التكرار الذكي : استخدام التكرارات الموسيقية لتعميق المعنى وليس مجرد الزخرفة
” الأداء الاستثنائي: صوتان وروح واحدة” عبد الكريم الكابلي: صاحب اللحن والأداء الأول
الكابلي، بصوته الذهبي الدافئ وتقنيته الغنائية المتقنة، قدم النموذج الأول لأداء هذه التحفة. صوته يحمل كل تفاصيل المعنى، من الهمس في البدايات إلى القوة في لحظات التحدي، من النعومة في وصف الليل إلى الألم في التعبير عن الجرح.
” زيدان إبراهيم: العندليب الأسمر”
الراحل زيدان إبراهيم أضاف بعداً مختلفاً للأغنية بصوته المخملي الدافئ. أداؤه يحمل طابعاً أكثر حميمية، وكأنه يهمس بالكلمات في أذن المستمع. هذا التنوع في الأداء يثري العمل ويضيف إليه أبعاداً جديدة في التفسير والتعبير.
” تحفة خالدة في ذاكرة الأمة”
“عز الليل” تقف كشاهد على عظمة الإبداع السوداني وقدرته على تحويل التجربة الشخصية إلى فن إنساني شامل. إنها ليست مجرد أغنية حب، بل ملحمة صغيرة عن الإنسان في صراعه مع الزمن والذاكرة والفقدان.
الكلمات تحمل عمق الفلسفة الإنسانية، واللحن يترجم هذا العمق إلى لغة عالمية تتجاوز حدود اللغة واللهجة. والأداء يضفي على العمل روحاً تجعله يصل إلى القلب مباشرة.
هذا العمل يمثل نموذجاً مثالياً للتعاون الفني المثمر بين الشاعر والملحن والمؤدي، حيث كل عنصر يكمل الآخرين ويضيف إليهم. إنه تحفة ستبقى خالدة في الذاكرة الجمعية للأمة، تذكرنا بأن الفن الحقيقي قادر على تخليد اللحظات الإنسانية وتحويلها إلى جمال أبدي.