
بقلم /المستشار: معاوية أبو الريش
نظرة شاملة للتعويض في القانون العماني : المادة (176) وتطبيقاتها .
يتميز القانون العماني بنظرة متقدمة في مجال حماية المتضررين من خلال المادة (176) من قانون المعاملات المدنية العماني ، والتي تنص على أن “كل إضرار بالغير يلزم فاعله ولو كان غير مميز بالتعويض ” هذا النص يؤسس لمنظومة متكاملة من الحماية القانونية تستحق الدراسة من جوانبها المختلفة .
الأسس القانونية والفلسفية :
يقوم التعويض على ثلاثة أركان أساسية : الخطأ ، والضرر ، والعلاقة السببية . وتتميز المادة (176) بتجاوزها شرط التمييز ، مؤسسة بذلك لمبدأ “المسؤولية الموضوعية ” التي تركز على جبر الضرر.
وقبل أن نستعرض أمثلة عملية ، من المهم أن نفهم الأركان الثلاثة الأساسية التي يجب توافرها للحكم بالتعويض ، سواء في المسؤولية التقصيرية أو العقدية . أولا : الخطأ أو الفعل الضار : في المسؤولية العقدية : يتمثل في الإخلال بإلتزام تعاقدي ، وفي المسؤولية التقصيرية : يتمثل في الإخلال بإلتزام قانوني عام بعدم الإضرار بالغير . ثانيا: الضرر : ويجب أن يكون الضرر محققا وليس إحتماليا ، وقد يكون الضرر ماديا أو معنويا أو جسديا ، ويشترط أن يكون مباشرا ومؤكدا . ثالثا: العلاقة السببية : وهي الرابطة المباشرة بين الخطأ والضرر ، ويجب ألا تنقطع بسبب أجنبي ، وهي تقدر وفقا لمعيار السبب المنتج .
تطبيقات عملية معاصرة : ونستعرض هنا مجموعة من الأمثلة العملية التي توضح تطبيق هذه الأركان . في مجال التجارة الإلكترونية : تاجر إلكتروني يبيع منتجات عبر الإنترنت ، وبسبب خلل في نظامه الإلكتروني ، تم خصم مبلغ مضاعف من حساب أحد العملاء . ففي هذا المثال نجد أن الخطأ يتمثل في الخلل في النظام الإلكتروني ، والضرر يتمثل في تسبيب الخسارة المالية للعميل ، وعلاقة السببية تتمثل في أن الخصم المضاعف نتج مباشرة عن الخلل . في المجال الطبي : طبيب يعاني من عرض عقلي مؤقت يتسبب في وصف دواء خاطئ لمريض ، رغم عدم تمييزه وقت الواقعة ، يظل مسؤولا عن التعويض . فالخطأ هنا يتمثل في وصف الدواء الخاطئ ، والضرر يتمثل في المضاعفات الصحية للمريض ، وعلاقة السببية تتمثل في أن تلك المضاعفات نتجت مباشرة عن تناول الدواء الخاطئ . ولنأخذ مثالا يجمع بين المسؤولية العقدية والتقصيرية : شركة نقل تتعاقد على توصيل بضائع ، والسائق (غير المميز بسبب تعاطيه الخمر ) يتسبب في حادث . فهنا المسؤولية العقدية تجاه صاحب البضاعة (الإخلال بعقد النقل ) ، والمسؤولية التقصيرية تجاه الغير المتضرر من الحادث . ولعل من أبرز التطبيقات المعاصرة لهذه المادة ما نراه في قضايا الأضرار البيئية ، فلو تسبب مصنع في تلوث بيئي دون قصد أو إدراك لعواقب نشاطه ، يظل ملزما بتعويض المتضررين ، فالخطأ هنا يتمثل في عدم إتباع معايير السلامة البيئية ، والضرر يتمثل في التلوث البيئي واثاره على الصحة العامة ، وعلاقة السببية تتمثل في أن تلك الأضرار الصحية نتجت عن التلوث .
طرق التعويض وآليات التقدير :
يتخذ التعويض في القانون العماني عدة صور ، ومنها التعويض العيني مثل إعادة الحال إلى ما كان عليه ، ومثاله : إصلاح سيارة متضررة في حادث ، وإعادة بناء جدار متهدم ، وكذلك التعويض النقدي ، وهو الأكثر شيوعا في التطبيق العملي ، ويقدر بحسب حجم الضرر ، وهو يشمل الخسارة الفعلية والكسب الفائت ، والتعويض بمقابل غير نقدي ومثاله : نشر حكم في الصحف في قضايا السمعة ، وتقديم خدمات للمتضرر ، وإصدار إعتذار رسمي .
دور التأمين في التعويض :
عند وقوع حادث مغطى ببوليصة التأمين ، تقوم شركة التأمين بتقديم تعويض مالي للمؤمن عليه لتعويض الأضرار التي لحقت به ، ويمكن أن يشمل هذا التعويض تغطية تكاليف العلاج الطبي ، وإصلاح الأضرار المادية ، أو تعويض الخسائر المالية الناجمة عن الحادث ، على سبيل المثال ، في حال وقوع حادث سيارة ، يتم تعويض المؤمن عليه عن تكاليف إصلاح السيارة والتكاليف الطبية للمصابين . ويعتبر التأمين أداة هامة لحماية الأصول الشخصية والتجارية ، فمن خلال التأمين على الممتلكات ، يمكن للأفراد والشركات حماية أصولهم من الخسائر المحتملة نتيجة الحوادث مثل الحرائق ، والسرقة ، والكوارث الطبيعية، وغيرها . وبالتالي يساعد التأمين في الحفاظ على إستقرار الوضع المالي وتقليل الأثر السبي للأحداث غير المتوقعة . وبذلك نتبين بأن التأمين يلعب دورا حيويا في توفير الحماية المالية والتعويض عن الأضرار في حال وقوع الحوادث .
دور الخبرة في تقدير التعويض :
عند النظر في قضايا التعويض ، قد تكون الأضرار المالية أو الصحية معقدة بحيث يصعب على المحكمة تحديد التعويض المناسب بدون الاستعانة بخبير ، ويقوم الخبير بتقييم الضرر بدقة ويقدم تقديراته الموضوعية بناء على معايير واضحة ومقبولة . وعلى سبيل المثال ، في قضايا الإصابات الشخصية ، يقدر الخبير الطبي مدى الإصابة وتأثيرها على حياة المتضرر ، مما يمكن المحكمة من تقدير قيمة التعويض بشكل عادل . وبشكل عام فإن المحاكم تعتمد على تقارير الخبراء لتحديد قيمة التعويض المناسب ، وتساعد هذه التقارير في تزويد القاضي بالمعلومات الفنية الدقيقة التي قد لا يكون للقاضي خبرة فيها . إضافة إلى ذلك ، يمكن للخبير تقديم شهادته وتوضيح وجهة نظره في المحكمة ، مما يسهم في توضيح الصورة الكاملة للقضية ، وبذلك توفر الخبرة للمحكمة الأدوات والمعرفة اللازمة لتقييم الأضرار واتخاذ قرارات مستنيرة ، وبهذا تسهم الخبرة في تحقيق العدالة وضمان حقوق الأطراف المتضررة .
ويلجأ القاضي للخبراء في المسائل الفنية المعقدة وفي تقدير الأضرار المستقبلية وتحديد نسب العجز ، ومن أهم أنواع الخبرة التي يلجأ إليها القاضي الخبرة الطبية ، والخبرة الهندسية ، والخبرة المحاسبية ، والخبرة التقنية .
معايير التقدير وعناصره :
تختلف معايير تقدير التعويض بإختلاف حجم الضرر المباشر ، والظروف الملابسة ، والمركز المالي للأطراف ، وتعد الخسارة المادية المباشرة ، والكسب الفائت ، والضرر المعنوي ، والمصروفات التبعية من أهم عناصر التقدير .
وتمتاز المادة (176) بسهولة تطبيقها في المحاكم ، إذ لا يحتاج المتضرر إلى إثبات أن المتسبب في الضرر كان مدركا لأفعاله . إذ ان كل ما عليه هو إثبات وقوع الضرر والعلاقة السببية بين الفعل والضرر . وهذا التبسيط في الإجراءات يسهل على المتضررين الحصول على حقوقهم .
وتمثل المادة (176) من قانون المعاملات المدنية نموذجا متقدما للتشريع المتطور الذي يواكب احتياجات المجتمع المعاصر . فهي تحقق التوزان بين حماية حقوق المتضررين وضمان العدالة الاجتماعية ، مع مراعاة التطورات التكنولوجية والاجتماعية المتسارعة . ولعل فهم أركان المسؤولية الثلاثة وتطبيقاتها العملية يساعد في تحقيق الغاية من هذا النص القانوني المهم . وما يميز المادة (176) أنها تتجاوز الشرط التقليدي للتمييز والإدراك ، مؤسسة بذلك لمبدأ “المسؤولية الموضوعية ” التي تركز على جبر الضرر أكثر من التركيز على معاقبة المتسبب .
ويجدر بنا أن نشير إلى أن المشرع العماني قد منح قاضي محكمة الموضوع سلطة تقديرية واسعة في تقدير التعويض المناسب ، وهذا التوجه من المشرع يعكس حكمة تشريعية عميقة تتجلي في مرونة التقدير وذلك من خلال مراعاة ظروف كل قضية على حدا ، وتقييم حجم الضرر الفعلي ، والنظر في الظروف الشخصية للمتضرر ، وتقييم الخسائر المادية المباشرة ، وحساب الكسب الفائت ، وتبقى الحكمة الأعظم هي تحقيق العدالة الناجزة وضمان حصول المتضرر على تعويض عادل ، مهما كانت ظروف المتسبب في الضرر ، فالقانون في نهاية المطاف ، ليس مجرد نصوص جامدة ، بل أداة حية لتحقيق العدالة وحماية الحقوق في مجتمع متطور .
وتمثل السلطة التقديرية للقاضي في تقدير التعويض تحديا متجددا يواكب تطورات العصر . وتبقى المرونة التي منحها المشرع العماني للقاضي ضمانة أساسية لتحقيق العدالة في ظل المتغيرات المتسارعة . ولعل التحدي الأكبر يمكن في الموازنة بين هذه السلطة التقديرية الواسعة وضرورة وجود معايير موضوعية تضمن عدالة التعويض وتناسبه مع الضرر .