رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير.. أسامة صالح

الأعمدة

” الحسد والغيرة: داء يفتك بالمجتمع السوداني ويحول دون نهضته”

بقلم : المستشار معاوية أبوالريش

يُعرف السودانيون في أرجاء العالم بسمعة طيبة تسبقهم، فهم أهل كرم وضيافة، صدق وأمانة، شجاعة وإقدام. هذه الصفات النبيلة جعلتهم محل تقدير واحترام في كل البلدان التي هاجروا إليها، حيث أثبتوا كفاءتهم ونجحوا في بناء حياة كريمة وساهموا في تطوير المجتمعات التي احتضنتهم.
ولكن المفارقة المؤلمة تكمن في أن هؤلاء الذين يُشهد لهم بالتميز والنجاح في الخارج، يعيشون في وطنهم الأم واقعاً مختلفاً تماماً. فالسودان، رغم ما حباه الله به من ثروات طبيعية هائلة – من أراضٍ زراعية خصبة، وثروات معدنية، ونهر النيل العظيم، وثروة حيوانية ضخمة – يبقى في مؤخرة الدول نمواً واستقراراً.
إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا يفشل السودانيون في بناء وطنهم رغم نجاحهم المُبهر في الخارج؟ الإجابة تكمن في داء خطير ينخر في جسد المجتمع السوداني ألا وهو الحسد والغيرة المدمرة التي تحول دون تحقيق الوحدة والتكاتف المطلوبين لبناء الأوطان.
قال الله تعالى:”وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ” (الفلق: 5)، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الداء العضال بقوله:”إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”.
الحسد في النسيج الاجتماعي: الأسرة والمجتمع: على مستوى الأسرة
يبدأ الحسد من الخلية الأساسية في المجتمع – الأسرة. فنجد الوالد السوداني لا يمانع في نجاح جميع زملاء ابنه في المدرسة، لكنه يريد أن يكون ابنه هو الأول عليهم جميعاً. هذه النزعة التنافسية المدمرة تزرع بذور الأنانية في نفوس الأطفال منذ الصغر.
في الأحياء السكنية، نشاهد المقارنات المستمرة بين الأسر: من يملك السيارة الأحدث، ومن يقيم العرس الأفخم، ومن يرسل أطفاله للمدارس الأغلى. هذه المنافسة غير الصحية تخلق شروخاً عميقة في النسيج الاجتماعي.
على مستوى النساء: بين النساء السودانيات، يأخذ الحسد أشكالاً متعددة: من التنافس على الأزياء والمجوهرات، إلى الغيرة من نجاح أطفال الجارات، وصولاً إلى التنافس على المكانة الاجتماعية. هذا التنافس يحول العلاقات الاجتماعية من مصدر دعم وقوة إلى مصدر توتر وصراع.
الحسد في السياسة: تدمير الوطن من أجل السلطة: يتجلى الحسد في السياسة السودانية بأبشع صوره. فكل حزب سياسي يسعى للوصول إلى السلطة والاستفراد بها، حتى لو كان ذلك عبر الانقلابات العسكرية التي تدمر البلاد. قادة الأحزاب لا يهمهم أن يعيش الشعب في فقر مدقع، المهم أن يستأثروا هم وأنصارهم بخيرات البلاد.
أمثلة حية:- الانقلابات العسكرية المتكررة في تاريخ السودان، حيث كان كل انقلاب يأتي تحت شعار “إصلاح” ما أفسده السابقون- رفض الأحزاب السياسية للحلول الوسط والتنازلات المتبادلة- التحالفات المؤقتة التي سرعان ما تنهار بسبب الصراع على المناصب والنفوذ
قال الله تعالى: “وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ” (الأنفال: 46)
الحسد في الاقتصاد: احتكار على حساب الفقراء: في القطاع الاقتصادي، يتصارع رجال الأعمال السودانيون فيما بينهم بطريقة مدمرة. كل منهم يريد أن يكون الأول والأبرز، حتى لو كان ذلك على حساب المواطن البسيط.
نماذج مؤسفة:- احتكار السلع الأساسية وإخفاؤها من الأسواق لخلق ندرة مصطنعة- رفع الأسعار بشكل جنوني استغلالاً لحاجة الناس- عدم الاستثمار في المشاريع الإنتاجية التي تخدم الاقتصاد الوطني
– التنافس المدمر بدلاً من التعاون لبناء اقتصاد قوي.
هؤلاء التجار ينسون قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
الحسد في الرياضة: خيانة الوطن من أجل النادي:وصل الحسد في الرياضة السودانية إلى مستويات مخجلة، حيث رأينا صحفيين يتآمرون ضد الفرق التي تمثل الوطن في المحافل الدولية، فقط لأنها تنتمي للنادي المنافس لناديهم المفضل.
أمثلة صادمة:- مساعدة الفرق الأجنبية ضد الفرق السودانية في البطولات الأفريقية- نشر أخبار مغلوطة تضر بسمعة اللاعبين والأندية المنافسة
– رفض دعم المنتخبات الوطنية إذا كانت تضم لاعبين من الأندية المنافسة
هذا السلوك يتناقض مع قيم الوطنية والانتماء، ويضر بسمعة الرياضة السودانية.
اللامبالاة المدمرة: عندما يغيب التضامن الوطني: ربما الأمر الأكثر إيلاماً هو اللامبالاة التي يبديها سكان المناطق الآمنة تجاه معاناة إخوانهم في المناطق المتضررة بالحرب. فسكان الخرطوم والمدن الأخرى الذين يعيشون في أمان نسبي، لا تؤرقهم الحرب المستعرة في دارفور وغيرها من المناطق.
مظاهر اللامبالاة:- عدم المشاركة في حملات الإغاثة والدعم- الاستمرار في الحياة الطبيعية وكأن شيئاً لم يحدث
– عدم الضغط على القادة لإيجاد حلول سلمية للنزاعات- التعامل مع معاناة الآخرين كأخبار عادية في وسائل الإعلام.
هذا التجاهل يتناقض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
الحلول والمخرج: مراجعة النفس والتوبة النصوح: إن الوضع المأساوي الذي يعيشه السودان اليوم ليس قدراً محتوماً، بل هو نتاج طبيعي لتراكم سنوات من الحسد والأنانية والصراعات الداخلية. والحل يبدأ من مراجعة صادقة للنفس والاعتراف بهذا الداء الخطير.
خطوات العلاج:التوبة والاستغفار
قال الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (الرعد: 11)
التربية من الأسرة: يجب على الآباء والأمهات زرع قيم التعاون والمحبة في نفوس أطفالهم بدلاً من روح التنافس المدمر.
القيادة بالقدوة: على القادة في جميع المجالات أن يكونوا قدوة في التضحية من أجل الوطن والتنازل عن المصالح الشخصية.
التعاون بدلاً من التنافس:
في الاقتصاد والسياسة والرياضة، يجب أن يحل التعاون محل التنافس المدمر.
نداء للضمير السوداني:
إن السودان يملك كل مقومات النهضة والتقدم: الموارد الطبيعية الهائلة، والعقول النيرة، والتاريخ العريق. لكن كل هذا لن يجدي نفعاً ما دام الحسد والأنانية يسيطران على قلوب أبنائه.
إن الوقت قد حان للسودانيين جميعاً – في الداخل والخارج – لأن يضعوا يدهم في يد واحدة، وأن يتركوا الأحقاد والضغائن، وأن يعملوا بصدق من أجل بناء وطنهم الذي دمرته الحروب والصراعات.
قال الله تعالى:”وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا” (آل عمران: 103)
إن المستقبل ينتظر، والأجيال القادمة تنظر إلينا، والله سبحانه وتعالى يراقب أعمالنا. فهل نختار طريق البناء والتعمير، أم نبقى أسرى لأهوائنا وأحقادنا؟
الخيار بين أيدينا، والله المستعان.

زر الذهاب إلى الأعلى